حوار مع الشاعر احمد حسيني (ألمي، هو ألم الشمال ..) حاوره: محمد نور الحسيني

* أبرز مجايليك من الكرد في سوريا كتبوا بالعربية، ماالذي جعلك تكتب بالكردية، رغم تشابه البيئة والظروف الإبداعية؟.

ـ تبدأ الحكاية باكتشاف أبجدية، تقف على الطرف الآخر من أبجدية المدرسة، ومناقضة تماماً لإيقاع اللغة الرسمية التي لها علاقة حسية وذهنية بعصا المعلم، ثم بالإرهاصات والبدايات التي مهدت فهمنا للفكر الشمولي، الذي مارس إلغاءنا وجوداً وهوية في وضح النهار، أولاً، الأبجدية التي تمنحك الشعور بالاختلاف الجذري من خلال شكل وجهة كتابتها وممنوعيتها، ومن ثم التوجس والخوف الدائمين من امتلاكها والتعامل مع مخزونها المعرفي ثانياً.

في اكتشاف تلك الأبجدية، وأنا في نهاية المرحلة الإعدادية تكمن، كما أتصور، سر ومغزى توجهي إلى الكردية.

ولا يعرف لذة الاكتشاف الذي أتكلم عنه، ولازال طعمه تحت لسان روحي، إلا من مارسه في صباه. متعة أن تتخلص من التاء المربوطة والمبسوطة. متعة أن تتحرر من التردد في كتابة الهمزة على الألف أم النبرة. متعة أن تدخل محراب اللغة دون معاناة أو خوف من رقيب في ترجمة المعاني والمفردات إلى لغة أخرى، لا تجيدها وأنت طفل.

في حقيبة من التنك، كانت تضم دفاتر حسابات قديمة، وتاريخ مذهل لانكسارات وهزائم والدي المالية، ثمة كتيب دون غلاف، قرضه الفأر من هوامشه، اسمه “ممي آلان”، أبدأ قراءته وفك رموزه، معتمداً على لغتي الغريزية في فهم الأحداث، واستكناه معاني الأبيات. لازلتُ أحتفظ بذلك الكتاب في صفيحة من التنك في القامشلي، مخبأة مع مجموعة من مقتنياتي الأخرى عند أحد الأصدقاء.

كتبت القصيدة الأولى بالعربية، ونشرتها حينذاك، في جريدة صوت الرافدين باسم أحمد جوانرو. حين قرأت قصيدتي المنشورة، أصبتُ بصدمة غريبة. كانت القصيدة تضم مفردات مثل الزبيب، سيباني خلاتي، مم وزين، السفرجل، البلوط، سيامند، الجبل، وأنا أقرأ القصيدة، كانت كل هذه المفردات التي زلزلت كياني ووجداني أثناء كتابتها، قد فقدت سطوتها وبريقها، وإلى درجة مذهلة، معانيها.

عدتُ من دمشق محبطاً وسائلاً نفسي عن سر أن يتحولَ زبيب “موش” وبحر “وان” وبلوط “بوطان” في العربية إلى هذا الشكل الباهت في المعنى والتعبير، ناهيك عن غياب الحس الشعري، مقارنة، وأنت تردد ذلك بالكردية في مستواها الشفاهي المحض.

وأنا أستمع إلى برنامج شعري في القسم الكردي بإذاعة بغداد، وجدتُ نفسي أردد في أعماقي بيتاً شعرياً، لا أعرف مصدره، ربما سرقته من المذيع الذي كان يلقي القصائد التي وردت إلى البرنامج، ربما قمتُ بتقليد قصيدة من تلك القصائد، تابعتُ ذلك البيت الشعري إلى النهاية، وكتبتُ قصيدتي الأولى، ترددتُ كثيراً قبل أن أقرأها لأخي “سعيد” الذي أصر على جودتها وإمكانية لحنها، ومن ثم غنائها.

لاشك أن غرفة أخي “سعيد” التي كانت تزخر بلقاءات فنية، ويتردد عليها مغنون وفنانون، قد ساهمت إلى درجة كبيرة في إغناء مخيلتي واحساسي بالكردية، وصقلت ذائقتي اللغوية، ومنحتني الشعور بامكانية الولوج إلى عوالم غامضة ومستعصية، بدءاً من الفلكلور الكردي، وانتهاءً بقصائد الجزيري.

حين فقدتْ تلك الغرفة شاعرين شابين ماتا حرقا، هما “فصيح سيدا” و”كسرى عبدي”، وجدت نفسي الوريث الأكثر قدرة على الانتقام من الموت، ومن خلال احتضان ألمهما، لغة وهوية، والبحث عن معنى الافتقاد والموت والشعر والحرائق والانتماء إلى كيان مقموع ومستلب، في متاهة حلمهما.

“كسرى عبدي” حتى في حديثه العادي جداً، كان يستخدم كردية نقية وأصيلة ومذهلة. كنت أقول له من أين لك كل هذه المفردات؟ يجيبني: “ابحث عنها ياأحمد ستجدها”. وبالفعل صرت أبحث عنها في ثنايا الكتب، قديمها وحديثها، أدون كل مفردة غريبة وأسأل عن معنى كل كلمة، حتى تراكمت لدي مجموعة لاتصدق من المفردات والمعاني والجمل والتعابير والمرادفات. كثيرون ربما يتذكرون حين جاؤوني قاصدين استعارة تلك الدفاتر القواميس بغية استنساخها وكتابتها وامتلاكها.

* في المنفى، السويدي، والآن الإنكليزي، قدمتَ معظم تجربتك الشعرية ـ الحياتية، والتي يجمعها خيط واحد، هو الألم، لماذا كل هذا الألم، حتى في قصيدة حب؟ أين ينتهي الألم الشعري في قصيدتك، ومن أين يبدأ؟

ـ قصائدي هي ترجمة أكيدة  لخسارات الروح التي عاشت حزنها الخاص، وارتهنت لفواجع وهزائم ومراثي انتمائها لغة وهوية.

ألمي، هو ألم الشمال الذي انفجّر مع انفجار ذلك النحيب المدمر لوالدتي، وهي تصر على احتضان وتقبيل الجثة المشوية لأخي المحروق في سينما عامودا، وأنا في الخامسة من عمري.

لاشك أن لوالدتي الأثر العميق في تفجير هذا الألم؛ كانت ذاكرتها، ذاكرة الفجيعة والحنين والحروب، تسرد لنا، ونحن نتكوم حولها شتاءً، قصصاً مذهلة عن الجيوش والثارات والهجرات، وعن البطش التركي، وعن قصف الفرنسيين لعامودا بالطائرات، ثم جاء موت خالي ـ أخوها الوحيد، ليجعل من حزنها سلوكاً يومياً، دفعها أن تعيش كل عمرها على ذكراه. خالي الصوفي “شريف”، كان سيد الحدود ومروض الألغام، مهرباً معروفاً بقدرته على اكتشاف الألغام، وفتح المسالك الآمنة للعبور، يأتينا صيفاً، ليأخذنا إلى الجهة الأخرى من الحدود، ثم يجول بنا المدن الشمالية من نصيبين إلى ماردين وآمد، ومع اقتراب موعد فتح المدارس، يعود بنا إلى عامودا، في ظهيرة قائظة وهو يسرع الخطا باتجاه عامودا، آملاً لقاء أخته الوحيدة، انفجراللغم بين يديه، وظلت جثته بين الألغام، تنتظر من ينتشلها من التفسخ. كل من يقتل بين الألغام يدفن هناك، هكذا تقول القوانين التركية، بعد ثلاثة أيام، وبعد وضع خطة محكمة، استطاعوا أن يسحبوا الجثة إلى عامودا، لم ينتهِ ألم والدتي بهذا الفقد، إلا وهي تودع الحياة في حضني، وعلى يدي اليمنى. 

كنا نكبر، وتكبر معنا آلامنا، تتعمق وتتجذر أكثر، لتمنحنا طعم ولون الكائنات الحزينة، التي ذاكرتها ذاكرة الفقدان، ووجودها يوشي بالخسارة الأكيدة. كائنات تعيش في محرقة حنينها، وتتنفس سطوة ذكرياتها في عالم بات مشغولاً حتى الفجيعة بالعرضي واليومي، وبالثرثرة والخواء.

بدايات القصيدة بألمها وحزنها، تظل مشدودة إلى تلك المساحة العبثية التي امتدت بعيداً في الموت والفراق، بدءاً من الحريق الظالم، ومروراً بالأصدقاء الذين تركوا برحيلهم، بالإضافة إلى الحزن والصدمة، تساؤلات قاسية عن المصير، وعن سر وجودنا في هذا العالم المهشم، وانتهاءً برحيل أخي “عبدالباسط”، الذي ومنذ ثلاثة عشر عاماً، لم تمر ليلة واحدة، دون أن أغلق عيني على ذكرياته.

أما بالنسبة إلى المنفى والكتابة في حضن هذا العالم المختلف ثقافة وطرائق فهم للكون والحياة والكائنات، هي دون شك تجربة تختلف من شاعر الى آخر، رغم العديد من القواسم المشتركة. المنفى معاناة دائمة يعيشها الشاعر أكثر من غيره، العلاقات اليومية تجبره على أن يتذكرغربته، ويعي هامشية وجوده في الزمان والمكان. وأعرف جيداً أن تجربة المنفى والاغتراب في قصائدي، هي تجربة متوترة وحزينة وأليمة، وخصوصاً حين تستدعي لغةً نوستالجية، لغة الذاكرة التي تنشد وتستدعي كل الماضي بجزئياته وتفاصيله وتداعياته الصغيرة والكبيرة، على شكل رموز وإيحاءات وأحلام وشخصيات وصور وإيقاعات وأصداء وملامح، هي في كل الأحوال، كل ما تبقى من نسيج تلك الحياة الحميمة والدافئة التي شكلت فضاءات طفولتنا وحزننا وكل خساراتنا.

ولكنني، لن أخفي عليك، بأنني في هذه البلاد تحديداً، وجدت واكتشفت ومارست حماسي واندفاعي الشديد للكتابة، وأقمت علاقتي الحياتية والمؤلمة مع لغتي، والتي أصبحت مع مرور الوقت وطني المفقود.

* ثمة مسارب للغة جكرخوينية، لاتزال تجد لها معابر في نصك الشعري ـ الحداثوي، هل تريد المواءمة بين الكلاسيك والمعاصرة، أم أن المزج ليس إلا تمازج لغة، والدخول في تخوم اللغة الثالثة: لغة المتمكن من تراثه (وهنا جكرخوين النموذج)، ومن ثمَّ الذهاب إلى تخوم النص الذي يدل عليك، لغوياً في الدرجة الأساس؟.

ـ لا أعتقد أن شعرنا مجبر على الانقطاع عن تراثه وذاكرته وقاموسه، وخصوصاً الشعر الذي يكتب باللهجة الشمالية، إننا بحاجة إلى نقطة انطلاق للتواصل والتأسيس، بشرط أن نمتلك الأدوات التي تساعدنا على الرؤية المغايرة والمعاصرة في التوظيف وفهم إشكاليات العلاقة بين السابق واللاحق، القديم والجديد، الكلاسيك والمعاصرة، التقليد والابداع.

لدينا أنماط إبداعية متميزة، تتسم بالبعد المعرفي، سواء أكانت نصوصاً وتجليات فردية مثل “الجزيري” و”فقي طيران”، أو نتاج الذاكرة الجمعية، التي تتجسد اختلافاً وتنوعاً في الفلكلور الكردي؛ والأدب الشفاهي الغني والخصب الذي يحتوي على مساحات معرفية وذهنية وجمالية وحسية وطرق فكر وتأمل، تحتاج إلى دراسة وتمثل وفهم وتفسير وإنارة لدلالاتها، ومحاولات جدية منهجية لتأويلها، كسبيل إلى إعادة بناء الذات، التي تعاني يباسها وانصهارها المحتم.

إنني أكتب باللغة التي أشعر أنها تمنحني خصوصيتي في اللغة، لاأهتم كثيراً بما ستؤول إليه، بقدر ما أبحث عن الالتباس واقتناص اللحظة الزمنية التي تعبرني إلى الماضي، وتترك آثارها على روحي وجسدي، محاولة ترويض وتحويل تلك اللحظة إلى فعل كتابي، دون شك، تضفي على وجودنا وحضورنا في الزمن معنىً مغايراً.

الأهم من كل ذلك، أن تبدع اللغة التي تشير إلى معاناتك وتوجساتك وألمك، وكيفية تعاملك مع الكائنات والموجودات من حولك، وطرق فهمك وحوارك مع الأسئلة التي تشغل ذهنك.

باختصار شديد، اللغة التي يوظفها الشاعر، تظل محكومة بإرهاصات التجربة، ولا تسير على نسق ووتيرة واحدة من جهة المضمون تحديداً، هي تتبدل اعتماداً على أشكال التوظيف، وعلى حجم المعطيات التي تمنحك القدرة على أن تكتب شيئاً مغايراً للعادي والمألوف.

* كتبتَ الشعر في مرحلة متأخرة نسبياً إلام تعزو ذلك!؟ هل ثمة شرارة إلهام قوية دفعتك إلى هذا الخيار بشكل نهائي؟.

ـ لم أفكر يوماً أن أغدو شاعراً. لا أدري بالضبط من أين جاءت هذه المصيبة.

كنتُ مهتماً إلى أبعد حد باللغة الكردية، وأتفاخر بقدرتي على كتابتها وقراءتها، لكن الشعر تحديداً، بدأ كما أتصور مع بداية صداقتي و”محمد نور الحسيني”.

كان “محمد نور”، قد بدأ ينشر قصائده وينتظر بلهفة زيارتي له، ليقرأ جديده على مسامعي. كانت لغته صعبة وصوره الشعرية ملفتة وغريبة أيضاً، تُولِّد عندي الذهول، كنت في أعماقي أحزن على الكردية: لماذا لا تكتب بهذه الجمالية!؟.

إذا استثنينا القصائد الغنائية والمقفاة التي كتبتُها، كانت القصيدة الأولى هي “عروسة النار” التي كتبتُ بداياتها في السويد أثناء زيارتي الأولى لها للمعالجة.

جاءت القصيدة، إثر الهجوم التركي عام 1983 على البيشمركه في كردستان العراق، كنتُ أعاني من العزلة القاتلة، أقرأ الكتب الكردية طوال الوقت، كلما أنهيت كتاباً، ركضتُ إلى المكتبة، لأستعير آخر، أثناء ذلك انتابتني موجة رهيبة من الوساوس والهواجس، التي دفعتني إلى الاعتقاد بأنني مصاب بسرطان الرئة، ولم تنته، إلا وأنا على متن الطائرة التي عدتُ بها إلى دمشق.

حملتُ معي حقيبة من الكتب الكردية، ومن ضمنها ديوان “رُوزَنْ بارناس”، الذي لفت نظري بلغته اللامألوفة. حين وصولي إلى عامودا، زارني المرحوم “صدقة”، مستفسراً عن الكتب التي جلبتها معي من السويد. أحضرتُ له الحقيبة، فسال لعابه، واتفقنا في النهاية على أن نتبادل ونتقايض البعض منها. أخذ “زاركوتنا كوردي” لأورديخان وجليلي جليل، ووعدني بدواوين شعرية. هكذا من خلاله حصلت على ديوان “عبدالرحمن مزوري” الأول. إن التجربتين، تجرية روزان بارناس وتجرية عبدالرحمن مزوري، شكلتا لديّ، عملياً، الفكرة الأولى عن أنه يمكن للقصيدة الكردية أيضاً أن تكتب بفضاءات بعيدة عن “جكرخوين” و”تيريز” و”يوسف برازي”.

حين زرتُ المرحوم “صدقة”، في صومعته لاحقاً، أخذت معي قصيدة عروسة النار، وقرأتها له، ففرح بها كثيراً، وأصرَّ على أن القصيدة جميلة ورائعة، وعلى أنني شاعر، وهكذا بدأ مشواري معه، ومع ديوان وقصائد الجزيري، الذي كان مخبئاً تحت الطاولة، بأصابعه النحيفة يقلِّب الديوان، ويبدأ بقراءته الصوفية للقصائد بفصاحة تامة، يتوقف عن القراءة، مسهباً في الشرح والتأويل، وفي تفسير الغامض الملتبس، بإحساس معلم يجهد ويصر على أن التلقين سيساعد التلميذ على فهم أعمق وأشمل لتلك الرموز والإيحاءات والصور. إنني مدين له على اللقاء  بالجزيري الذي سيرافقني إلى الموت.

أي خيار في النهاية هو خسارة.. أن تختار الشعر خياراً نهائياً، يعني أن تخسر الخيارات الأخرى.

* اختصاصك الأكاديمي أقرب إلى السرد والدقة والمنطق ـ أقصد الفلسفةَ ـ لماذا اتجهتَ إلى الشعر، إلى العاطفة القصوى والحنين والبلاغة.. هل ثمة مسارب تتقاطع عندك، بين الشعر والفلسفة؟.

ـ الشعر فعل اللغة، والفلسفة فعل الفكر، الفكر مهم للشعر، بقدر ما اللغة مهمة للتفكير. ثمة انفعالات عقلية كبرى، كما هناك قصائد فكرية عظيمة. هذا ما يقوله “جان آنسيه”.

أعتقد أن دراستي للفلسفة، أفادتني كثيراً جداً في كتابتي الشعرية، من حيث روح التأمل، ومحاولة النظر إلى العالم بعمق أكثر، خارج إطار الحياة المتغيرة. جعلتني أفهم وأهتم بالقضايا الأكثر شمولية، والمرتبطة بالإنسان والمفاهيم الإنسانية الواسعة، وبالمعاناة الإنسانية بشكل عام، ولذلك لا أعرف إن كانت لغتي ومحتوى قصائدي قد تأثّرا بدراستي للفلسفة أم لا.

لكنني، أستطيع القول بأن كل ما قرأته من فلسفة، كان خارج إطار المنهاج الجامعي، لا أتذكر بأننا درسنا فوكو ودولوز وباتاي ودريدا وشتراوس وآخرين في الجامعة. ولكن الدراسة الجامعية ساعدتني في فهم أعمق، وربما أسرع من حيث  استيعاب القاموس المصطلحي الفلسفي. كما أنني بذلت جهداً لابأس به في معرفة الأسئلة التي تهم واقع ثقافتي وهويتي ولغتي، والإشكاليات الناتجة عن واقع الحالة الثقافية الكردية.

* يُؤخذ على شعرك، بأن فيه نبرة بكائية طاغية، حتى درجة النوستالوجيا القصوى، وأنه يغلّب العاطفة على التأمل في ثيمة الحزن؟.

ـ وعي الشاعر لجسامة وحجم المأساة في التاريخ الكردي قديماً وحديثاً، ومن ثم الظروف والمتغيرات السياسية والاجتماعية والنفسية التي تعصف، منذ مليون سنة، وحتى الوقت الراهن، من حدود وألغام وتشويه للبنية الروحية، واقتتال داخلي، حروب صغيرة وكبيرة، مجازر وإبادات، وانتهاك أعراض واغتصاب، وضياع هوية، وأكاذيب ونفاق وتسلق وذل وهزائم وتدميروخردل ومؤامرات وتصفيات، أضف إلى ذلك قائمة طويلة ومملة من الخسارات والذكريات والفقدان والحنين، وظروف الشاعر الشخصية والعائلية، لا بد لكل هذا، أن يلقي بظلال قاتمة على الحس والوعي الإبداعي برمته.

من المفروض ألا نبدد حزننا بالبكاء، علينا أن نمنحه معنىً، وألا ندعه يمر دون أن نؤسس له في اللغة تعبيراً يوائم كثافته..

* لقد تركتَ بصماتك في القصيدة الكردية الجديدة.. هل كنت تتوقع هذا الاحتفاء!؟.

ـ أي احتفاء تسألني عنه!؟، لم أكتب يوماً بقصد أن يُحتفى بي، كما إنني لن أتواضع كثيراً، أفهم موقعي جيداً، أفهم بأنني حين كتبت بهذه اللغة، كنتُ أموت قليلاً في كل قصيدة كما يقول مالارميه. الاحتفاء الحقيقي بالنسبة لي، هو أن أقتنع قبل رحيلي، بأنني حقيقة قد تركتُ بصماتي على القصيدة الكرمانجية تحديدا!.

* ثمة دعوات قوية لنبذ كل إبداع يكتبه الكردي بالعربية أوالتركية، أو الفارسية، يصل إلى درجة المحاربة لدى البعض.. ألاتعتبر الأمر تطرفاً ومغالطة؟.

ـ إن هذه المناقشة سابقة لأوانها، تبدأ مع اللحظة التي يبدأ فيها الكردي بدراسة لغته.

أستغرب كيف نناقش هذه الظاهرة والطفل الكردي جالس الآن على مقاعد الدراسة، يتعلم العربية والتركية والفارسية. أعرف أنها لغة الذئب، يقول “كاتب ياسين”، ولكنه لم يستطع أن يعبر عن ألمه ووجدانه، إلا بلغة الذئب، تلك.

إن لغة المدرسة والتعلم، تحل تدريجياً مكان اللغة الأم، التي هي مكتسبة أصلاً، وغير قادرة على منافسة محتواها المعرفي. بمعنى أننا حين تعلمنا العربية، لم نتعلمها بشكل مجرد عن تاريخها وجغرافيتها وفلسفتها وفكرها وثقافتها، يعني أن الكردي في تناوله العالم، وفي نظرته إلى نفسه ومحيطه، وفي مجمل أنساقه المعرفية والتحليلية والفكرية، يعتمد على لغة المدرسة، حيث يمتلك المرونة في التعامل معها تعبيراً وخيالاً. إن هذه اللغة ستنتج حتماً شعراءها وكتابها وفنانيها ومفكريها.

ولن أتردد في القول، بأن الجزء الأهم والأكثر عمقاً، والأوسع دلالة لمعاناة الكردي وألمه والتناول الأكثر فنية وجمالية لهويته وأساطيره وأحلامه، قد كتب بالعربية.

إن الكاتب الكردي الذي استخدم لغة التعلم كوسيلة للتعبير عن معاناته، وعن مأساة وجوده، هو كاتب كردي بامتياز.

أعتقد إن مثل هذه الدعوات، تجد لها صدىً أوسع في أوساط أولئك الكتَّاب الذين استفادوا من واقع اللغة الكردية، حيث أنهم حين يقارنون نتاجاتهم وكتاباتهم بكتابات أولئك الذين يكتبون بلغة التعلم، يكتشفون حقيقة أدواتهم ومدى قدرتهم على التعبير والإبداع.

لايعني هذا أنه على المبدع الكردي باللغات الأخرى، أن يستسلم لقدره، عليه أن يحاول ويجهد ويتوجس باستمرار، على ألا يترك لغته الأم محرومة من قدراته الخيالية والمعرفية والإبداعية والنقدية. أعرف أن الأمر صعب للغاية، ولكن بعض التجارب الواقعية، أثبتوا إمكانية ذلك.   

* لم يعد الشعر يُقرأ عالمياً ـ ثمة نغمة تتردد ـ؛ والشعر الكوردي، جرفت جزءاً مهماً منه الفاجعة الحياتية، أكثر من الإبداعية!، إلى أين أودت بك هذه الطوفانات؟ ألن يأخذك النثر إلى حياته!؟.

ـ لايعني هذا أن الأجناس الأدبية الأخرى تقرأ بشكل أفضل، في وقتنا الحاضر. أعتقد بأن قراء الشعر كانوا دوماً قلة، ولا يقرأ الشعر، إلا أولئك الناس الأكثر وعياً لضرورة قراءته، من حيث المستويين النفسي والمعرفي، أولئك باستطاعتهم اكتساب متعة القراءة ومتعة الراحة النفسية. يقول “آلان جفروا”: “هناك رجال ونساء لا يكتبون الشعر، لكنهم أقرب إلى آلهة فن الشعر من بعض الشعراء أنفسهم”. الشعراء يكتبون فقط من أجل اولئك الرجال والنساء، لأن الثورة الحقيقية للبشر والتغيير النهائي للعالم مرتبط بهم. بالفعل، قبل سنة ونيف كنتُ في آمد، بعد ان أنهيت من قراءة محاضرتي، كان ناشر ديواني قد رتب موعداً مع القراء، كي أوقع لهم على الكتاب، بدأتُ التوقيع، وما أن انتهيت، حتى وجدت فتاة في العقد الثاني من عمرها، تحمل دفتراً أسود بين يديها، نظرت إليَّ، دون أن تتكلم، وضعتْ الدفتر بين يدي، وقالت: “أرجو أن تقبلها هدية مني”. كان الدفتر مغلفاً بقماشة مخملية سوداء. سألتها عن ضرورة ذلك، فقالت: إنني أقرأ لك باستمرار، وأحفظ الكثير من قصائدك عن ظهر قلب، وحين قرأت، بأنك تركت كتابة الشعر، حزنتُ جدأً، ولم أتخلص من سطوة الحزن إلا بعد أن مزقتُ أجمل ثوب عندي، وغلفت به الدفتر، ثم مدتْ يدها إلى الدفتر، وفتحته، فإذا بخصلة مقصوصة من شعرها في وسط الدفتر، وذلك حداداً على هجري للشعر. حينذاك تذكرتُ رجال ونساء “آلان جفروا”.

إذا كنتَ تقصد بالنثر كتابة الرواية أو القصة، فإنني بالتأكيد، لاأتجرأ حتى مجرد التفكير في ذلك.

 * قيل بأن المبدع يكتب كتاباً واحداً.. قصيدة واحدة.. ربما ينطبق هذا على إبداعك بشكل جلي، إذ ثمة تصادياً يتردد في معظم مجموعاتك في الأعمال الكاملة متّشحاً بنبرة الفجيعة، ماذا تقول!؟.

ـ ما يهمني في كل هذا، هل استطعت في تجربتي الشعرية أن أضيف إلى الكردية شيئاً من قلقي والتباسي؟.

هل نجحتُ في سياق الكتابة الشعرية الحديثة على كتابة قصيدة، هي قصيدتي، لغة وخيالاً وإيقاعاً؟.

كتبتُ بحزن يليق بكل الذين فقدتهم، وبكل أولئك الذين أحن إليهم، كنت والألم توأمين في الكتابة. ولم أكتب في حياتي إلا وأنا حزين، وكان هاجسي الوحيد دائماً وأبداً أن الكتابة في الحزن تحتاج إلى لغة باسلة واستثنائية، من حيث بعدها التخييلي والإيحائي. وحين شعرتُ بأنني لم أعد قادراً على منح أحزاني اللغة الجديرة  بها عمقاً وفضاءً، توقفتُ عن الكتابة. فمنذ عام 2000 لم أكتب إلا قصيدة واحدة.

* أحمد حسيني يتكىء على ذاكرة نائية، معظم تلافيفها متشكلة في عامودا.. أما تشعر بأنك أسير هذه الذاكرة!؟ وأنه آن لك أن تتحرر منها؟.

ـ من أين سأحصل على ذاكرة أخرى، وطفولة أخرى، ستظل عامودا نبض القلب حتى النفس الأخير. لن أبدِّل ذاكرتي، مهما تبدلت الجغرافيات والأمكنة، لاأستطيع ذلك. منذ عشرين سنة، أستبسل من أجل أن تدوم عامودا، وتبقى في الذاكرة الشعرية والوجدانية. الناس عاشوا غربة أو غربتين، ونحن نعيش اغترابات لاتنتهي، لكل منها دويها وقدرها وطعمها وشكل وجوديتها. مع الوقت تحولت عامودا إلى ألم وسكين حادة قاتلة، وما يؤلم أكثر هو مصداقية قول كافافيس الشهير:

“إن كانت حياتك قد خربت في هذه الزاوية من العالم، فأينما ذهبتَ ستجد خراباً”.

* لقد تكرّستَ بشكل أو بآخر كشاعر يكتب باللهجة الكرمانجية، ويكاد يكون اسمك هو الأكثر تداولاً..! لكن، ألا يبعث على الاستغراب، أن لغة يتحدث بها أكثر من عشرين مليوناً، لم تقدر أن تكرّس إلا شاعراً، وبضعة نجوم، تنوس هنا أو هناك، دون إشراق معقول!.. أين تكمن المشكلة!؟.. هل هي في المواهب، أم في اللغة، أم في النقد، أم في ماذا؟؟؟.

ـ الكل حرّ في أن يكتب مايراه مناسباً له. ولكل شاعر، كما أعتقد، تصوراً للشعر، ولدور الشعر، ولأهمية الشعر من الناحية الروحية والجمالية والفنية. وكل شاعر، مهما كان شعره متواضعاً، يفهم إلى حد ما مسؤوليته تجاه اللغة تحديداً.

دائماً، وعلى امتداد العصور، هناك شعراء يقدسون دور الكلمة، وكانت حياتهم مرتهنة بقصيدتهم. ودائماً، هناك من يعتبر القصيدة أداة للهذيان والثرثرة واللعب المجاني، الذي يفضي إلى تشويه اللغة وتشويشها. في لهجتنا، ثمة قصائد مخجلة، تسخر من كاتبها نفسه، قبل أن تسخر من اللغة وأصحاب تلك اللغة. علينا أن نعترف أيضاً بأن واقع لغتنا وغياب النقد عن الساحة الأدبية، ساعدا على ترسيخ المزيد من المباشرة والاستسهال والادعاء والرداءة الشعرية التي ينتظرها النسيان.

رغم أن الكردية تعرضت إلى دمار وخراب وانقطاع، إلا أنها لم تفقد جاذبيتها، لاعلاقة لما يكتب بقوة الكردية أوضعفها. “فقي تيران” كتب شيخ صنعان بلغة سهلة وشعبية مألوفة، لكنه، بإنارتها من الداخل، وبحساسيته الشعرية، منحها فضاءات تعبيرية مذهلة. هناك الكثير من الدجل، والكثير من استغلال غياب النقد، وهناك أيضاً تجارب حقيقية، تحاول بجهد مضنٍ وبأناة أن تجد لها حضوراً متميزاً في المشهد الشعري الكردي.

منذ وجودي في ستوكهولم وأنا أعايش بشكل أو بآخر؛ الوسط الثقافي الكردي تحديداً، أعرف كل الذين يكتبون بالكردية، لي صداقات وعداوات لابأس بها، أغلب صداقاتي عمقاً، لا علاقة لها بشاعريتي، أو بالكتابة تحديداً، رغم إنني أحتفظ بصداقات حميمة مع أغلب المثقفين الكرد، ومن أجزاء كردستان. وعداواتي، في أغلب حالاتها مع الكتاب، هي نتيجة مواقفي من تجاربهم، وحفنة من الأسئلة التي لها علاقة مباشرة بمصداقية الكتابة والإبداع، وكيف أن الكثيرين قد استغلوا واقع الثقافة الكردية، ليصطادوا في مائها العكر.

أحدهم، على سبيل المثال، يعيش في دولة أوروبية منذ طفولته، يدرّس في جامعتها، ويقرأ بلغتها، لكنه غير قادر على كتابة مقالة صحفية لجريدة من الدرجة الرابعة، بينما نجده في الكردية، يمطرنا بمقالات يومية، لاعلاقة لها بالفكر والمعرفة والموهبة،  وتنم عن جهل وأمية واضحة، كلام عادي جداً، يمكن أن تسمعه من أي شخص يجيد التكلم باللغة، هذا، لو قارنت هذه الحالة مع آخرين من غير الكرد، تجد أن التركي أو اليوناني أو الفارسي الموهوب، باعتباره لا يستطيع التعامل مع لغته بهذا الاستسهال والاستخفاف، ولغته هي الأخرى لا تسمح له بطرح اسمه دون موهبة أو امتلاك لأدوات فنية وجمالية تساعده على التعبير، تجدهم كتاباً وصحفيين ناجحين في اللغات الأوربية تلك.

لو طرحت هذا السؤال مثلاً: كيف لكردي درس ستة عشر عاماً بالألمانية، ولا يتجرأ على كتابة رسالة بها، أن يكون كاتباً وصحفياً وناقداً بالكردية، فقط بالكردية؟.

شخص آخر، على سبيل المثال، أيضاً لا علاقة له لا من قريب أو من بعيد، بشيء اسمه إبداع أو شعر أو كتابة، ناهيك عن الحدس والرؤى، وجد في الكردية ضالته، إنها لغة سائبة، لا حول لها ولا نقد. حين تقرأ له، تجد أنه يترجم من العربية إلى الكردية، إنه يعرف جيداً بأنها في العربية ستكون مجرد ثرثرة وكتابة من اللادرجة، فالكردية عنده، إذاً، خير وسيلة لنشر هذه البضاعة  الكاسدة.

باختصار، هناك انطباع سائد لدى أغلب من يجيد القراءة والكتابة بالكردية، ولدى أغلب الناس هنا، بأن كل من يرغب قادر أن يصبح شاعراً وكاتباً كردياً، طالما أن فلان وعلان يكتب بها بهذه السهولة. بهذا الشكل يمارسون تشويه المشهد الثقافي الكردي برمته.

ليس من الضروري أن نكون جميعاً كتاباً وشعراء، باستطاعة المرء أن يكون ناجحاً في إطار عمله واهتمامه، مثلاً أن يكون طاهياً جيداً، أو تاجراً ناجحاً، أو سائقاً ماهراً!!.

نحتاج إلى وعي ونظرية نقدية، أكثر من حاجتنا إلى أي شى آخر.

2005

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق