الكاتب عبدالباري احمه : التطهر والتعميد.. من الأسطورة للواقع

مقدمة..
منذ البدء، بدء نشوء الحضارات المادية، وغير المادية، اصبح الشغل الشاغل للإنسان قصته مع الدين والآلهة والطقوس، كيف مارسها؟ ولمن؟ هذه العبادات والطقوس رافقته منذ بدء الخليقة، وقد تكون تقديم القرابين من أقدم هذه العبادات، لكن لماذا لا يستطيع الفرد أن يقدم قرابينه أو يمارس طقوسه إلا وقد طهر جسده، أو غمسها في الماء، حتى يطهر روحه وجسده خلال هذا التطهر، ومن ثم يقدم تلك القرابين والأضاحي والصلوات للآلهة، ولم يكن التطهر أو التعميد وعبر التاريخ البشري مجرد سكب بعض قطرات الماء على الجسد، أو الغوص في ماء النهر أو البحر لدقائق حتى يشعر الإنسان بأنه تطهر من الرجس، أو طهر روحه من الخطايا، أو من غضب الآلهة، إنما كان ومازال التطهر طقساً دينياً يمارسه الإنسان كضرورة عبادية، حتى يستطيع التقرب من الإله ويمارس عباداته بكل صدق.
ومن مقولة ( ليست كل الطقوس والعبادات ناتجة عن الخوف والقلق فحسب، بل هي تهدئ أو تقلل من الخوف)1 ومازال الخوف يشغل بال الإنسان من هذه المجاهيل التي رافقته من خلال تبنيه الأفكار والعبادات التي تخفف خوفه من المجهول، ولم تسعفه كل هذه العلوم التطبيقية والتكنولوجية من التعرف أو التقرب على أسرار هذه العبادات والطقوس، وما يشغل بال كل المهتمين والفقهاء والمتبحرين في علوم الأديان سر شعور الإنسان بالتطهر مجرد سكب قليلٍ من الماء على جسده، لم يستطع أحداً أن يصف شعور المتطهر، كيف تُحلق روحه نحو ملكوت السماء..
التطهر لغةٌ..
معجم المعاني الجامع
تَطهَّرَ يتطهُّر، تطهُّراً ، فهو مُتَطّهِر
تطهر المصلي ـ تنزهَ عنهُ وكفَّ
تطهر الثوبُ طهر ، خلا من النجاسة والدنس.
تُطهّرُ النفس من كل الذنوب ـ من يُطَهّرُها.
معجم لسان العرب
طُهرُ ـ نقيض النجاسة كالطهارةِ ـ طَهَرَ وطَهُرَ فهو طاهر.
القاموس المحيط
طُهرَ يَطهرُ، طهَارة وطُهراً فهو طاهر وطهور
طهرُ العالمُ برئ من كل ما يشين ـ طهرُ لسانه من فاحش القول.
المعجم الرائد
اطّهَّرُ
اطهر يطهر فهو مطهر
اَطهر الرجل، أغتسل (وإن كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَرَّوا) المائدة 16
ولأن الاغتسال والتعميد من نفس الجنس والوظيفة، من المستحسن أن نغوص في معانيها وقيمها الطقسية، لأن التطهر هو وبحسب كل المعاني وفي أغلب المعاجم ترمي إلى الاغتسال بالماء قبل القيام بأي عبادة.
التعميد
ويدخل في سياق هذه الكلمة ـ المعمودية ـ العماد وهي تشير للقيام بطقس يدخل الإنسان في عوالم جديدة.
معجم المعاني الجامع
تعميد ـ مصدر عَمَّدَ
تَعْمِيدُ الوَلَدِ ـ غَسْلُهُ بماء المْعْموُدِيَّةِ
عَمَدَ السَّقْفَ ـ أقام عِماَدَهُ، دَعَمَهُ
عَمَدَ الْوَلَدَ (عند المسيحيين)غَسَلَهُ بِماَءِ المَعْمُودِيَّةِ، أي غَسَلهُ بِماَءٍ
معجم اللغة العربية المعاصر
عمَّد القَسُّ الطفلَ ـ نضحه أو غسله بماء المعمودية
والمعمودية طقس لكل الكنائس المسيحية، لكن قد تختلف قليلاً من كنيسة لأخرى، ففي الكنيسة البروتستانية يتم غطسه أو رشه ثلاث مرات تبعاً للأقنومات الثلاثة المقدسة وبذلك يكتسب الانتساب للمسيحية، أما المندائيين التابعين ليوحنا المعمدان، فالتعميد عندهم لا يعني اكتساب هذه الصفة بقدر ما تعني لهم تطهير الجسد والروح، والمندائيين هم أول من مارسوا المعمودية وكانوا يغطسون اجسادهم أو يغمسون في الماء ثلاث مرات، أما الطائفة اليزيدية فهم أيضاً يمارسون طقوس تعميد الطفل عند ولادته من ماء(كانيا سبي) النبع الأبيض، والمعمودية تبدأ بسكب الماء، أو رشه على رأس الطفل ثلاث مرات.
من أين جاء هذا التشابه في الطقوس بين الأديان؟ من مارسها أولاً؟ كم عمر هذه الطقوس؟
هل كانت فعلاً أساطير خلقها الإنسان؟ ثم ما لبثت أن اكتسبت صفة القداسة، وتوارثتها الاجيال رغماً عنها وعبر رجالات السياسة قبل رجال الدين؟ وهل يمكن الفصل بين الأسطورة وما تجسده الأديان من ممارسة تلك الطقوس التي ورثتها من الأساطير؟
فالقوة الأسطورية لأي تميمة أو طقس يتحدد حين نجد تأثيرها في وعي الفرد أو الجماعة، ومن جانب آخر قد تصبح الأسطورة الدينية بتجلياتها خارج الزمان، والدخول في زمانٍ آخر، وبذلك تخلق فكرة غير مألوفة في الواقع، ومن هنا لا يمكن أن نقرأ أي دين بمعزل عن منبتها الأسطوري، وتحديداً ما يتعلق بدراستنا حول الاغتسال والتطهر والتعميد، وكيف تحولت هذه الأسطورة إلى حقيقة طقسية تتمتع بكل أشكال القداسة(الدين نوع أسطورة، وبالتحديد حياة أسطورية، وبتخصيص أشد حياة أسطورية من أجل توكيد الذات في الأبد2) ما تم ذكره يؤكد بأن الأسطورة ليست عقيدة، ولكن لماذا أغلب البشر يمارسون جزء منها في عباداتهم، وهم مقتنعون بأنها لا تضر ولا تنفع، وهي قريبة من الطوطمية إذ لم تكن طوطمية بكل تفاصيلها.
المغامرة الأولى..
قد يتساءل البعض هل اعتمد الإنسان على عقله أم على عاطفته حين مارس أولى اكتشافات مغامرته مع الحياة، حين اكتشف الآلهة؟ أم كان له غايات أخرى وخاصة في بدايات الحضارات المادية، حين اعطى لنفسه مكانة عالية وقوية بين مجموعته، لا تقل أهمية عن مكانة وسمو الآلهة، وهذه المغامرة اوصلته إلى نتائج غير دقيقة، ومنها دخل في تناقضات حقيقية في اتخاذ القرارات المناسبة والصحيحة في بناء مجتمع طبيعي يسوده العدل والمساواة، وما زالت البشرية تعيش هذه التناقضات التي خلقها الإنسان لنفسه وخاصة قبل تسيد الديانات السماوية بمفاهيم قد يراها البعض متقدمة على مفاهيم الديانات الوضعية، ولأن الناس تبحث عن صفة الكمال والاطمئنان من خلال الإله الذي يختارونه، وما زالت المجتمعات تعيش حالة من الشك والحيرة، أي إله هو الأفضل؟ وأي العبادات هي الأصح؟ لأن الإله وبحسب أرسطو هو(المعيار الذي نقيس عليه الكمال المثالي للكينونة)3 بذات السياق نقرأ تيمية مصرية تتحدث عن بدء ولادة وتطور آمون، هذه الولادة التي رافقت أغلب الآلهة في الشرق والغرب..
هو الذي بدأ التطور في أول فرصة 5
آمون الذي تطور أولاً
بدايته غير معروفة
لم يتطور إله قبله
وليس هناك إله معه ليخبرنا بطبيعته
ليس له أم يرجع أسمه إليها
ليس له أب وضع نطفته وقال ” إنه لي “
هو من لقح بيضته
المتحكم بولادته غير القابلة للمعرفة
الذي خلق كماله(الخاص)
الإله السماوي
والمتطور ذاتياً
أليست هذه الاسطورة بمحتواها الاشكالي تشبه كل الاساطير في الشرق والغرب عن بدء نشوء الآلهة؟ ولأن الشعوب تتوارث علومها الإنسانية جيل بعد جيل، كذلك تتشابه في طقوسها بشكل عام وإن اختلفت اللغات والأسماء والأماكن، وطقوس التطهر والتطهير عند الشعوب لها نفس الغاية وأن اختلفت الوسائل، فعند اليونانيين أعياد ” الإليوسية ” الكبرى، ويتم الاحتفال بها كل خمس سنوات وتحديداً في شهر ايلول، وتعتبر من أعظم وأقدس الاعياد، ويقام هذا الاحتفال على شرف (ديميتر) أما الغاية منها فهي الاحتفال بأسرار الآلهة، وتقام على مدار يومين.
ففي اليوم الأول يذهب شباب أثينا إلى (اليوسيس) لإحضار الحاجات الخاصة المقدسة والمحفوظة في معبد ديميتر، وفي اليوم الثاني يجتمع المخلصون المهتمون بهذه الأسرار تلبية للماهن المشرف، ومن ثم يذهبون ليتطهروا في ماء البحر4، بينما اصحاب ديانة ” الشنتو” يعطون أهمية كبيرة لطقوس التطهر، حتى أنها تندرج تحت هذا العنوان، ولها شكلين أو جانبين، التطهر الخارجي ويقصد به الجسد، لأن الجسد وبحسب طقوسهم مدخلاً لطهارة النفس، وهذا التطهر الخارجي يعمل على طهارة القلب ويعيد له صفائه ونقائه، وتتلخص ممارسات هذه الطقوس بغمر الجسد بماء البحر أو النهر، هذا الغمر والغطس للجسد يخلص الروح والجسد من كل رجس، وعندما تكتسب الروح صفائه يقدمون القرابين للآلهة.
البدايات..
هل كانت البدايات مجرد أساطير؟ أم هي حقائق مادية آمن بها الإنسان، وجعلها طقوس يومية وموسمية يريد التقرب من خلالها للآلهة؟ وليس بخافٍ على أحد أن الديانات كلها اشتقت من بعضها وأن اختلفت في عباداتها، فكل الديانات تؤكد بأن البدء كان من الماء وعلى الماء فعند السومريين كان الإله “آنكي” بمثابة إله المياه الجوفية العذبة، التي تتجمع في الأنهار والبرك، آنكي كان يظهر في شعائر التطهر، وكان بنفس الوقت يمتلك القدرة على تطهير كل نفس وروح تعرضت للدنس، وكذلك المرض والنجاسة، أما اليونانيين وعلى لسان (هزيود)6 تبدأ الحكاية بأن (الكيوس) كان عماءً شاملاً ثم ظهرت(غيا) أما اصحاب الديانة العبرية فيؤكدون بأنه (في البدءِ خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربةً وخاليةً، وعلى وجه الغمرِ ظلمةٌ وروح اللهِ يرفُ على وجهِ المياهِ)2 وعند المسلمين بدأت الحياة حين كان عرش الرحمن على الماء (وهو الذي خلقَ السمواتَ والأرضَ في ستةِ أيام وكان عرشهُ على الماءِ ـ هود 7) ، لهذا كله بات الماء والاغتسال الطقس الاوحد عند كل الديانات بالتقرب من الله.
فكانت الزرادشتية واحدة من أقدم الديانات التي أقرت بالتطهر قبل أي عبادة، وبالإضافة للماء كانت النار المقدسة عندهم بمثابة منبع للحكمة، وقبل أن يكتسب الزرادشتي الحكمة كان عليه أن يتطهر بالماء أولاً، ويشرب من خلطة (الهوما) وهي ماء مطهرة ومقدسة، تطهر روحه، أما عند اليونانيين كان المشهد كرنفالياً أكثر، ففي اثناء تقديم القرابين للآلهة الأوليمبية وفي الفجر حصراً، كانت هذه القرابين بمثابة هدايا لهم، وكانت تبدأ بالصلوات والثناء على الآلهة، حين يطلب المصلي ما يضمره من امنيات، رافعاً ذراعيه نحو السماء، وقد يكون أشهر تلك المواكب موكب (إيليوسيس) في حضرة الإله ديميتر، هذا الموكب كان يتألف من فتيات وكهنة وخدم، يحملون أحزمة من القمح، وكانت تبدأ تلك الطقوس بنزول الجميع إلى ماء البحر يطهرون أنفسهم من حياتهم السابقة، والاستعداد بالدخول لحياة جديدة تنتظرهم.
هل كانت الطهارة / التطهر شكل من اشكال الوعي الروحي، والنفسي بعكس النجاسة والذنوب التي تغلف القلب بالخوف من لعنة قد تنزل من ملكوت السماء؟ لهذا عملت كل الأديان ومنذ فجر التاريخ على ممارسة طقوسها بالتخلص من النجاسة الجسدية بالاغتسال أو الغطس في الماء حتى يكتسب الجسد والنفس الطهارة الكاملة، والدخول في ممارسة العبادات الفردية والجمعية في معابد خاصة لهم، من هنا شكل كل ديانة في الحضارات البدائية طقوساً خاصة لها، واعطت لنفسها ومن خلال التطهر ثقافة للتعبير عن رؤية اجتماعية، واكتسبت نظاماً عقائدياً مهمته الترابط بين أفراد المجموعة، وبين الفرد والإله، والذين لا يتبعون هذه القيم والمبادئ والطقوس الخاصة بالتطهر، قد ينظر إليهم في كثير من الأحيان بأنهم خارج المجموعة، وقد يصبحون في يومٍ ما أشخاصاً غير محببين في مجموعتهم.
(ولخصت كل الاديان تعاليم التطهر أو التعميد أو الغمس في الماء بشيئين، الأول الاهتمام بالصحة الجسدية، والثاني اضفاء صفة القدسية على هذه التعاليم والطقوس، التي تدعوا إلى طهارة الروح والنفس ومن ثم ممارسة هذه الطقوس في حضرة الآلهة)6
وقد أصبح التطهر جزء مهماً ورئيسياً في كل الاديان، وهذا ما اعطى صفة(التابو) له مثله مثل التابوهات الأخرى التي تلجم الفكر بالانطلاق نحو معرفة خصوصية هذه التابوهات، وما زالت البشرية رغم التطور الحضاري والتقني والتكنلوجي لا يمكنها أن تتجاهل قدسية هذا التابو أو ذاك، ولم يفكر يوماً الاستغناء عنه، والسؤال الذي ينخر عقول الناس هل شكلت الطقوس وممارستها تقدماً في الأمر شيئاً عملياً، أم يؤخر عملية التطور؟
الآلهة والتطهر..
لماذا أتخذ الإنسان من صفات الإله معياراً لإنسانيته؟ (إن الإله هو المعيار الذي نقيس عليه الكمال المثالي للكينونة) ارسطو
هذا الكمال المثالي في الكينونة جاء من طهارة روح الإله وصفائه، وهذا ما جعل الإنسان أن يتخذ من التطهر بالماء بوابة يرتقي من خلالها بروحه نحو ملكوت السماء، ولم تقتصر طقوس التطهر على الديانات السماوية فحسب، وثمة سؤال آخر يطرح نفسه هل الإيمان بالله وفق مبادئ الديانات السماوية يعد شكلاً متطوراً من أشكال التطهر في الديانات التي حملتها لنا الاساطير؟ قد تكون الحالة هذه مرتبطة بالأخلاق المجتمعية والدينية قبل أي اعتبار آخر لأن المسافة الزمنية القصيرة جداً بين لحظات الانتقال من اللاتطهر والدخول في عام التطهر، هذا الانتقال الذي يستغرق دقائق معدودة حين يغطس الإنسان في الماء يشعر وبكل جوارحه بأنه اصبح قريب من الله، لأنه سوف يدخل ملكوته من خلال أداء طقوسه وعباداته وهو طاهر الجسد والروح.
وكون الأخلاق هو جوهر كل الاديان، وهذا بحد ذاته يعتبر صعوداً نحو الاعلى والتخلص من كل اشكال النجاسة التي اكتسبها خلال ممارساته اللاأخلاقية،(العلاقة الأخلاقية المستقرة مع الرب فهي الدين الحقيقي)7.. وما زالت حقيقة الاديان تعتمد على مجموعة من السلوكيات والطقوس والعبادات والشعائر حتى ينال المؤمن رضا الآلهة أو تجنب غضبها، وحتى يمارس الإنسان شعائره لا بد أن يتطهر أو يغمس جسده في الماء، وهذا التطهر يعيد له صفاء روحه، حتى يتقرب من الله بقلبه الصافي وجسده النظيف، كي يتجنب اللعنة من السماء، وما اكثر اللعنات في التاريخ، والاساطير اخبرتنا بكثير من هذه اللعنات حين يمرد شخص أو مجموعة من الافراد برفض تقديم القرابين أو إنكار العبادات، وحتى يتجنب تلك اللعنة السماوية لا بد أن يغمس جسده في الماء ويطهر روحه ويقترب ثانية من الله.
ففي يوم الغفران عند اليهود يقفون على الشاطئ(تشليخ) يرمون ما في جيوبهم في ماء البحر، يعتقدون بأنهم يرمون خطاياهم في الماء، ثم يتطهرون بالماء، معتقدين بأنهم اصبحوا انقياء الروح والنفس، هذا الاحتفال في عيد الغفران(كاباروت) اقدس من كل أعياد واحتفالات اليهود، حيث يقوم المتدين برفع دجاجة بيضاء فوق رأسه وتسمى(بديلي) يعتقد بأن خطاياه تنتقل لهذه الدجاجة، ثم يذبحها، ويتصدق بها على الفقراء، أما الطهارة الكبرى عندهم هي الغطس في بركة الماء أو أي مصدر طبيعي للماء، ففي الإصحاح 11 من سفر اللاويين (ألا العين والبئر مجتمعي الماء تكونان طاهرتين)
التطهر بين الرمزية والوهم
رافق الطقس والرمز سلوك البشر منذ آلاف السنين، وجاءت هذه الرمزية من خلال خوف الإنسان من الطبيعة وأسرارها، فعاش بين الوهم والحقيقة من جدية هذه الرمزية، وإلا لماذا اصبحت اغلب هذه الرموز حقائق في فكر وعقيدة وطقوس البشر ومنذ آلاف السنين، وقد يكون الطوفان اسطورة في حياة وأديان اغلب شعوب منطقة الشرق الأوسط، هل كان الطوفان دعوة من السماء للبشر بتطهر الجسد والروح والعودة للحياة الطبيعية، والابتعاد عن كل اشكال العصيان في وجه الله، وعدم الاتيان بأي شكل من اشكال الظلم والقتل؟
ثم لماذا بات التعميد رمزاً مقدساً عند كل المسيحيين، (أن هالة القداسة التي تحيط بكل اشكال الدين، يجعل من المتدين طائعاً دون نقاش أو تردد 8) لم تكن طقوس المسيحية في بداياتها بغريبة و لا جديدة، كونها كانت تشبه طقوس وأسرار الديانات التي سبقتها، وأولى هذه الطقوس هو التعميد أو الغمر في الماء(التعميد) ومن خلال تعميد الطفل وفق ترانيم الكنيسة يصبح طاهر الروح والجسد، وهذا التعميد بات بمثابة طلب انتساب للمسيحية والكنيسة بنفس الوقت، وهي ولادة جديدة للطفل يقول المسيح(ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا ولد وكان مولده في الماء) يوحنا 3/5 اكتسب المسيح هذا الطقس من يوحنا بن زكريا الملقب بالمعمدان، الذي كان يعمد الناس ومنهم المسيح في نهر الأردن، وبعد تعميده في نهر الأردن عاد المسيح من الأردن ممتلئاً بروح القدس، ومازالت الغاية منها تطهير الجسد ومغفرة الخطايا.
بذات السياق أتخذت جماعة (الاسينيوس) وهم فرقة من اليهود اعتزلوا الناس والمدن وكانوا يمارسون طقوس التعميد في الماء، وعاشوا في البرية، ينتظرون مجيئ المسيح، ولا يمكن تجاهل مجموعة (المغتسلة) وتعني الاغتسال بالماء، وخرج من رحم هذه المجموعة (ماني)..
الذي أسس الديانة المانوية، (وتعتبر الصابئة المندائيين الذين يعيشون في جنوب العراق الآن، وكلمة صابئة مشتقة من الجذر صبأ، وتعني بالمندائية الآرامية التعميد التطهير بالماء)9
لم تكن الصين بعيدة عن هذه الطقوس، فقد صاغ “كونفوشيوس” تعاليمه بحكمة بعيداً عن الطابع الديني، ولم يعتبر نفسه يوماً ما رسولاً من السماء، بقدر ما اعتبر نفسه إنساناً يعمل على التلاؤم مع النظام الكوني والانسجام معه، هذا الانسجام كان يعكس العلاقة التلقائية مع السماء، لأن الإنسان وبحسب مفاهيمه ليس كائناً مستقلاً عن الطبيعة والكون، وكان دائما يهتم ويركز على القانون الأخلاقي في المجتمع، كونه صورة مصغرة عن القانون الكوني، وجسد هذه العلاقة بالتطهر، فمن خلال حوار بينه وبين أحد مريديه نلاحظ مدى اهمية الاغتسال عند كونفونشيوس.
المريد يسأل كونفوشيوس: أعطني بعض تعاليمك
كونفوشيوس: هل اكلت نصيبك من الأرز
المريد: نعم
كونفوشيوس: هل غسلت قصعتك
المريد: لا
كونفوشيوس: أذهب واغسل قصعتك ثم تعال اعطيك تعاليمي.
والقصعة هنا هو رمزية اغتسال وطهارة للجسد، والتعاليم هي صفاء الروح والتقرب للخير.
جدلية الخلاف والوحدة…
كل الاديان ورغم الاختلاف في شكل طقوسها وعباداتها ونوع التطهر والاغتسال، إلا أنها تدعوا إلى منظومة معينة من القيم والافكار والعبادات، تجسد الإيمان بالمطلق والشمولي، يعيش من خلالها الفرد والمجموعة في كمال نسبي من الأخلاق والسلوك الحسن، هذه الجدلية ليس تناقضاً بقدر ما هو خلاف جزئي في الآليات، والغاية واحدة لا تتجزأ، ولو بدأنا بالطوطمية كأقدم ديانة عرفها الإنسان قبل أثني عشر ألف سنة نجد فيها لكل عشيرة أو مجموعة طوطم خاص بها، ولم يذكر لنا التاريخ بأنهم دخلوا حرباً بسبب هذا الاختلاف، بقدر اهتمامهم بغاية واحدة هي خلق منظومات مشتركة ومتقاربة بينهم، رغم وجود آلاف الطواطم، هذه المنظومات المشتركة ساهمت على السمو بالروح نحو الحقيقة، ومن هذه الحقيقة الخفية كانوا يستمدون منها القوة لمواجهة أخطار الطبيعة والبيئة بكثير من الثقة.
وبدأت رحلة الإنسان مع الديانات والآلهة، رحلة الشك واليقين، فخلق لنفسه اساطير غريبة بحجم اغترابه ومعاناته مع أسرار السماء أولاً والأرض وما فيها وما عليها ثانياً، فكانت إقامة الطقوس ملجأ له للتخلص من هذا الشك، وبات التطهر بالماء فاتحة طيبة لكل صلاة يقوم بها للآلهة وغضبها، ومن ثم يطهر روحه بتقديم القرابين لتلك الآلهة، ولم يكتمل هذا المشهد من فراغ، بل تجسدت بشكل واضح عندما حول الإنسان أغلب الأشياء من حوله إلى المطلق، واعطاها صفة القداسة، هذه الصفة مستمدة من عمق تاريخ الأديان والآلهة، فباتت عبادات يومية حفظية تتبعها حركات روتينية، وقد اكتسبت هذه الطقوس جبروتها، بعد أن أصبحت ذهنية جمعية لا يمكن المساس بها جهراً.
من هنا ندرك بأن التطهير أو التعميد ليس برش قليل من الماء الطاهر أو المقدس على الجسد فحسب، بل ما يرافق ذلك تلاوة ترنيمة، أو تعويذة، أو تمتمات من كتب مقدسة أو غير مقدسة، كل هذه السلوكيات اكتسبها الإنسان من خلال اساطير وحكايات تناقلتها الاجيال عبر آلاف السنين، والأسطورة ليست بدعة، ولا وهماً ولا تهيؤات من صنع خيال الإنسان، وما زالت اغلب مناهج البحث العلمي تخلط بين الاسطورة والبدعة، بهذا الصدد يؤكد لنا “ماري دوغلاس” بأن (الأسطورة واقع ليس افتراضياً، أنما واقع حقيقي، وهي ليست وظيفة، أنما نتيجة، مادة، وهي واقع محسوس، ملموس، خلاق، كائن معيش)10
التطهر وطقوس العبور…
حين اكتشف الإنسان ماهية القداسة في حياته، واعطاها صفة القداسة، ووضعها فوق كل مراتب السمو، لأنه يدرك في قرارة نفسه بأن هذه القداسة هي جسرٌ يعبر من خلاله للخلود، لهذا باتت هذه القداسة اللامرئية مختلفة عن كل الملحقات بها مثل الصلوات والقرابين، ويدرك تماماً بأن التطهر بالماء مدخلٌ صادقٌ للعبور إلى عالم الملكوت، هذا المقدس أخذ من حياة الإنسان مساحة واسعة في البدايات، فكانت الممارسات الطقسية والتي تبدأ دائماً بالتطهر تخفف عنه الخوف والقلق النفسي، فمن خلال التطهر كان يخفف عن نفسه كل اشكال التوتر، وقد يصبح التطهر معبراً له بالسمو نحو السماء حتى يقدم ولائه للآلهة.
وتطورت مفاهيم القداسة من خلال سلوك الإنسان اليومي، وخاصة بعد عمل اصحاب هذه الديانات على اقناع الناس بضرورة تصديقهم بنزول هذه الديانات السماوية من السماء إلى الأرض، ورغم ذلك مارست المجتمعات في المنطقة كثيراً من الطقوس الطوطمية في عباداتهم، بعد اعطائها صفة القداسة، فكان التطهر جزء مهم في عبادات هذه الديانات، ومن السياق الثقافي في هذه الديانات، ورغم تحييد عامل الزمن الاسطوري، يبقى الزمن المقدس دائم الحضور حين يذكر الله، فالأصل والمستحدث في هذه الديانات يمكن تأويلها وبكل مصداقية بأنها نتيجة حتمية من نتاجات الديانات البدائية، لقد استمدوا طقوسهم من الأساطير والخيال قبل أن تصبح واقعاً ملموساً في حياتهم، ولأن الجسد لغزٌ يشبه الكون بأسراره، فهو لا بد أن يتطهر، والتطهر بمثابة تجديد دورانه في فلك الخلود، كما تسبح الكواكب في افلاكها مطمئنة من أي عائق في دورانها، وحين التطهر، تتطهر الروح والجسد بنفس الوقت حينها يدخل الإنسان في منظومته الطقسية، ومن خلالها يدخل معبراً يحلق نحو السماء ويعيش الطمأنينة بشكل كامل.
الخاتمة..
قد تكون الخاتمة ليست اعتيادية في هذه الدراسة، بل تكون بمثابة تطهر وتطهير من كل خطايا وأخطاء وقعت في هذه الدراسة، وكي تتطهر هذه الدراسة لابد أن تغتسل في مطهر دانتي، ففي (الكوميديا الإلهية) لدانتي والتي هي ثلاث مشاهد(الجحيم ـ المطهر ـ الفردوس) قد يسأل البعض لماذا وضع دانتي مشهد المطهر كمعبر للذي يسكن الجحيم حتى ينتقل للفردوس؟ أي سر يكمن في المطهر؟ حتى يسمح للمؤمن بالعبور للخلود في الفردوس، ثم ما هي شروط التطهر عند دانتي حتى يسمح للشخص بالعبور للضفة الأخرى؟
دون شك المطهر في هذه الكوميديا هي رحلة من عالم الذنوب والخطايا، إلى عالم التوبة في مراجل الاكتواء بالنار، والعودة لعالم الإيمان بالخير والعمل الصالح، والتقرب إلى الله وملكوته، ورحلة دانتي لم تستغرق أكثر من أسبوع، كان نصيب المطهر أربعة أيام، هذه الدلالات بمثابة دعوة دائمة للإنسان بأن يتطهر من خطاياه، والمطهر عند دانتي جبلٌ صعد إليه فرأى حال ساكنيه من العذاب، وهم يبحثون عن طرق كي يحصلوا على العفو والغفران، وكل الغاية من تصورات دانتي للمطهر أن يعمل الإنسان على فعل الخير، ويبحث عن الافعال التي تدفعه بإصلاح نفسه وأن يطهر نفسه وروحه من كل الخطايا التي يقوم بها بحق أخيه الإنسان، والمطهر يمثل العدل الإلهي والطبيعي للحياة، كونه يتوسط مرحلتي الجحيم والفردوس، المرحلة المهمة في حياة الإنسان كونه يترك الظلم، وينسى كل أعماله السيئة، بعد أن يتطهر بماء مقدس كقداسة الخير والمحبة، ويرتقي بروحه إلى عالم الفردوس، والفردوس هو عالمنا الدنيوي الذي نعيشه بدون خطايا.
هذه الدعوة للتطهر من الظلم والقهر والنفاق والكذب مستمرة ودائمة للإنسان وليست محكمة آخروية، إنها محكمة الإنسان الداخلية، محكمة الضمير الذي لا ينام عن متابعة ومحاسبة افعال صاحبه، ومن الجميل أن يرى دانتي شخصيات مهمة في جحيمه، كـ (الاسخريوطي ـ بروتس) و كثيرون غيرهم، وهذا تأكيد بأن كل الناس سوف يمتثلون أمام محكمة الضمير، ولن يعودوا للحياة إلا بعد التطهر، وإلا سيبقون في جحيمهم مع الآثمين يتلذذون بخطاياهم، والمطهر بذات السياق هو كل ما نراه في حياتا، سلوكنا، خطايانا، معاصينا، ولا تستقيم حياتنا ولا حياة الناس إلا بالعودة للتوبة عن كل ما يسيء للناس.
دانتي كان يعيش خياله وكأنه يرسم للناس رحلة خالية من الخطايا كي يعيشوا في فردوس دائم، وكي يسهل عملية التطهر التي قسمها إلى ثلاث مراحل، وتبدأ الأولى بالتوبة، أما الثانية فتبدأ بالاعتراف بالخطايا، أما الثالثة فهي البقاء على هذه القيم النبيلة والسير نحو الفردوس 11
وبالنتيجة هل بات التطهر أزمة بشرية لا يمكن التخلص منها بهذه البساطة، هل فعلاً البشر لا يتعظون بعقوبات الله، لأنهم بالنتيجة لا يعملون وفق قيم كل الديانات السماوية وغير السماوية ومنذ آلاف السنين، وهذا يؤكد لنا تماماً بأن التطهر والتطهير والاغتسال والتعميد مجرد طقوس لا فائدة منها ما لم يكف الإنسان عن ارتكاب الخطايا بحق نفسه وحق الآخرين.
المراجع…
1ـ موسوعة تاريخ الأديان ـ الكتاب الأول ـ فراس السواح ـ دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر 2017
2ـ فلسفة الأسطورة ـ أليكسي لوسيف ـ ترجمة د. منذر بدر حلوم ـ الطبعة العربية الأولى 2017ـ دار الحوار للنشر والتوزيع.
3ـ العهد القديم(التوراة) سِفر التكوين.
5ـ مغامرة العقل البشري ـ كورت رافلوب ـ ترجمة متيم الضايع ـ الطبعة الأولى 207ـ دار الحوار للنشر والتوزيع.
6ـ موسوعة تاريخ الأديان ـ الكتاب الرابع ـ فراس السواح ـ دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر 2017
7ـ الُطهر والخطر ـ ماري دوغلاس ـ ترجمة عدنان حسين ـ طبعة 1995 دار المدى للثقافة والنشر.
8ـ الطهر والخطر المرجع رقم 7
9ـ ألغاز الإنجيل ـ فراس السواح ـ طبعة 2016 دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر
10ـ ألغاز الإنجيل ـ المصدر رقم 9
11ـ مسرد رحلة دانتي في الكوميديا الإلهية ـ مؤمن الوزان ـ من مقالة في موقع(التراث الأدبي والإنساني)