بهرام حاجو بين الرمادي والتجريب القائم على أبعاد سوسيولوجية

غريب ملا زلال
● سعى الفنان التشكيلي السوري بهرام حاجو طوال تجربته الفنية الثرية لتصوير القضايا والهواجس الإنسانية بشخصيات قادمة من ذاكرته العميقة، ذاكرة رمادية تتفجر فوق مساحات شاسعة لتخلق أجسادا عارية تعبر عن الرغبات الإنسانية المكبوتة.
من الوهلة الأولى، سيقول كل من يقف أمام أعمال الفنان التشكيلي بهرام حاجو (1952) إنها متشابهة أو على أكثر تقدير هي فصول من عمل واحد، حتى إن هناك من يقول إن حاجو لم يرسم إلا لوحة واحدة ولكن بفصول مختلفة. قد يكون في ذلك بعض الصواب ولكن إذا وقفنا أمامها بعين القارئ الناقد والتي تختلف عن عين المتلقي العادي سنرى أن الأمر ليس كذلك تماما، لكن كيف نستطيع أن نقنع الآخر بذلك.
اللوحة عند حاجو تعتمد كثيرا على الحوار الداخلي، فكل شيء في أعماله يتحدث، كما أن كل شيء فيها ينصت بإتقان فكأنه يدير جلسة حوارية عذبة بين مفرداته /شخوصه، واللون، وفضاء العمل.
هذا الحوار الداخلي يدفعه إلى الذاكرة البعيدة حينا والقريبة في أكثر الأحيان، فيغوص وباهتمام مزدهر في العمق الإنساني فينقسم كل شيء في عمله على نفسه. يبدو هذا الانقسام ملازما لمشروعه خصوصا في مناطق التلامس التي تتحول إلى تداخل مع اندفاع الحركة حيث التزوّد المعرفي ضرورة حتمية لتشكيل رؤيا تمتلك فيما تعد وعيا أكثر حداثة. حاجو يتعامل مع ألوان قليلة وتكاد تكون أحادية لولا إضافة لون آخر برشقات قليلة تحرك العمل من كل مفاصله.
قيم فنية ومعرفية
لعل الفنان هنا متأثر بمنهج الإسباني أنطونيو تابييس في اشتغاله على مساحات عدمية وإشارات متصارعة، وهذا قد يجعله يحتاج إلى تقنية خاصة لها قدرة على التجسيد، فهو غير معني بالتفاصيل اللونية وهذا يخلق لديه حالة خاصة في التعامل مع العمل، فيهذب العمل من الزوائد كلها ويكتفي بالعناوين حتى أنني أستطيع القول إن عمله أشبه بالقصة القصيرة جدا في الأدب، يتخلى عن الكثير من مفردات العمل، يبحث عن اختصار يرمي للزوائد بعيدة، لا يرغب بوجود مراكز دون فعل، ولا أشياء دون الإفادة منها.
هو يتمثل في خلقه في تحققها ضمن شرطها الجمالي ويميل إلى الأخذ بمرتكزات ينقلها إلى حداثة قد تنقسم على نفسها لاحقا، بل يعتبر أن الوعي في العمل الفني يجسد وعيا متكوّنا بأثر من تحولات عوامل جديدة محددا بالبنية التحتية لقائمة تحركاته، وربما هنا يستنبط حاجو حالات كاشفة للنفس البشرية بخصوبة ذاكرته للقبض على اللحظات الأكثر تأثيرا في الزمن المتواري والأكثر استهدافا وتحريضا لخوض خيارات لقضايا مطروحة بهشاشة.
هنا ينزاح الفنان نحو حكايا ذات احتفاءات متنوعة، ويكرس نتاجه لذائقة جمالية لا تلغي تخييلاته بل يحقق عبرها قيما فنية ومعرفية بالوقوف لا عند مشارف الحالة بل في عمقها، حيث كثافات الإنصات متداخلة من اللحظة الأولى والزمن الأول وصولا إلى الاستغراق في التفاصيل وبين ملامح الجو الخاص الذي يستغرق فيه حاجو برهة ثم يتجاوزه للدخول في الوصف التفصيلي دفعة واحدة، لا يتراجع إلى الخلف بل يستمر في تنظيم تشكيلة التداخلات في الوقت الذي يوزع أحزمة ضوئية ضمن نطاق غير ضيق قد يساعده في إضاءة اتجاهات يسلكها عادة على اعتبار أن العامل الفاعل في استقرار الحالة هو الموقع اللوني الذي ينعش فضاء اللوحة وقد يحيلها إلى مقاطع تتسارع فيما بينها لإنتاج أي أثر من آثار التوتر المنبثق من العمق والمندمج بالحواف.
يتسرب الزمن الرمادي إلى لوحات بهرام ببطء متسارع ثم يتصاعد هذا التسرب مشكلا مجموعة متحدة من الهزائم والانكسارات، فأصابع الفكر المتقد في متاهات الخيبة وأزقة الإحباط جعلت سيطرة الرمادي تتجه بكل الاتجاهات بقصد الفضح والتشهير، فبهرام لا يلجأ إلى الرمادي لكشف الذات وتفريغ الذاكرة وإنما كشكل منخرط في الإحباط.. أو على أكثر تقدير شرط غياب الإنسان والبحث عن وجوده.
قد سلكت معظم لوحات الفنان هذا البناء الرمادي الفني وهو طريق متقدم جزئيا في تأريخ أزمنة الهزائم وإكساء ذاتية اللوحة بحقل ينتهي إلى الرماد بعمق.
بعبارة أخرى، السياق العام لأسلوبه لم يكن يسمح بطغيان العام على الخاص وإنما انتقال الخاص إلى العام وربطهما بأعمدة من مشاعر إنسانية. وتكتسي السيرة الفنية لبهرام باحتراب معلن بين الذات واللون وكانت الكفة دائما تميل لقتل بهرجة اللون بغمسه بخطاب سياسي أيديولوجي رمادي أيضا. فهذا الشكل من الفن وبهذا المستوى المرتفع كليا وبهذا الوعي الشاهق يدفعه إلى الإمساك بزمن الرماد وعدم تخليه عن العقلية الرمادية في الحكم على الأشياء.
ويستدعي أيضا التلاعب بالريشة وباللون المتسلط خلق تشكيل فيه من الغرابة الشيء الكثير يقودنا حتما إلى التساؤل: هل يمكن لتعقيد عالم الغرابة الشخصي والداخلي أن يفضي إلى ثيمة عالمية على أنها لحظة من لحظات زمنية الرماد؟
تداخل لوني وفكري
إن تجربته مع المرأة وقدرته على تأريخ جسدها ما هي إلا نزوعات جنسية شهوانية متعثرة عاطفيا متألقة فنيا بمسار فكري غيري القيمة ومتلاحقة الأهداف لتثير مستوى التذوق الفني لديه، وهو يصفع المتلقي كثيرا. هذا ليس بهام فالأهم عنده أن تغرد اللوحة كما يشاء هو، لكن عشق بهرام لرمادية اللوحة عبر زمنية مغبرة هل يمنحه مصداقية خاصة عبر تجربة جد متميزة أم أن ذلك يورطه في البحث عن نتائج فنية جمالية ضمن تفصيلات مطروحة؟
الرمادي عند بهرام يورطك في التداخل بأصوات تخرج من داخل العمل بوصفها تشكل خصوصية في تعدد وجهات النظر بما فيها فقدان السيطرة على خلق قيم تشكيلية بغلبة الصوت الواحد، وهذا ما يجعله ينجح كثيرا في إقناع المتلقي بالحالة التي ينقلها بعنف في أكثر الأحيان وقد يفشل في أحايين ضيقة، خاصة في إقناع المتلقي وهو يفقد السيطرة على الأعصاب وهو منهمك في هدم اللوحة وبنائها من جديد.
القيمة الفنية لعمله من حيث البناء هو استئثار الشكل الغنائي بخصوصية ثقافية تنتمي إلى الشمال المصادر والمنهمك بدوره بأوجاعه حتى الرمق. فالمرجعية اللونية للوحته متعلقة على نحو كبير بالقيمة الفنية لهذه اللوحة، ومساحة المتلقي داخل العمل في هذه الحالة تكبر وتكبر إلى درجة تحس بوجود عقد ما بين المتلقي والمنتج لوحدة المرجعية من جهة وسيطرة الرماد من جهة ثانية.
كما أن حاجو بارع في خلق الواقع الافتراضي بأفق التحولات الثقافية المنطلقة من وعي الإنسان بحركة الأثير في اللوحة. حينئذ تتراءى لنا معجزة في صنع طيف لا يحل لنا أن نسيء الظن به، فيظهر بمشهد بصري حي يعجز العقل بقبول صرخاته والتسليم بواقعيته. وعندما يسترد المتلقي يقظته يظن للوهلة الأولى أنه قادم من زمن غابر أو أنه غبر بألوان وكأنه خرج توا من اللوحة التي تستنطقه وتجرده من الجسد، نتركه ينزلق إلى الروح بانسيابية، لكن عشق بهرام لرمادية اللوحة عبر زمنية مغبرة هل يمنحه مصداقية خاصة عبر تجربة جد متميزة أم أن ذلك يورطه في البحث عن نتائج فنية جمالية ضمن تفصيلات مطروحة على ضوء منهج متحرك فكريا وجدليا؟
أعود وأتساءل هل ثمة قرابة قوية بين بهرام والرماد؟ هل خلق بهرام من الرماد حتى يسيطر عليه كل هذه السيطرة؟ هل هو مجبول به فيكاد يتحول إلى لغته في تعاطيه مع الحياة بشقها الفني الجمالي؟
نعم ثمة قرابة بينهما تمتد إلى عقود من زمن يغلب عليه سجع ثقيل يعتز به كثيرا، وهو لا يكتفي بذلك بل يوصله إلى قصص مقتبسة من اشتغاله في تفعيل التجريب، وتحديه في إدارة الظهر لأحد أهم شخوصه الفنية.
فالمسألة عنده قد تعود إلى فكرة واحدة وهي: لماذا لا نجمع أوراقنا التي سقطت في الخريف الفائت؟ ولماذا لا نغمسها بالرماد حتى نتحرك باتجاه الخلق والإبداع، باتجاه الانتقال إلى تحقيق وظيفة قيمية جمالية إلى جانب النهوض بالتقنيات التي تساعد بهرام في صياغة سردياته الرمادية، وبالأساليب التي يؤول إليها في تشكيل خطابه الذي لا ينحسر في حدود الممكن فقط، بل يكاد يصبح علامة لاندفاعاته التغييرية الموسومة بعوامل تحاكي سعيه لتدوير حركية علاقاته مع الرماد الذي لا ينتهي بحثه مهما فرض من ملامح تجربته.
قد لا أختلف مع بهرام حاجو في إشاراته وبحثه الدؤوب عن المفهوم العام للتجريب، فجل أعماله تحيلنا إلى أعمال أخرى، وهذه ميزة أعماله، وقد يكون ذلك من أهم ميزاته، ولهذا يبدأ التجريب عنده من عمله الأول ولا ينتهي في عمله الأخير، التجريب المتكئ على الرماد حيث يستمر في خلق خيباتنا وإحباطاتنا بل يستوحي منها مشروعه المتسرب إلى هذه الزمنية الرمادية والمنخرط بترسخ معلن في تبخر الأحلام وموت الأفق.
بالاعتماد على مرجعية تخيلية يعاد تشكيلها بخلق عوالم مصغرة تبرز جرأة الفنان في محاكاة العالم الأكبر بكل تحولاته وتجلياته. وهنا يصل بهرام إلى التماهي في مباغتاته الكثيرة والجميلة في الوقت نفسه، تلك المباغتات التي تعني أنه بالإمكان تجريب المزيد من المستويات بما فيها تكسير خط الزمن، والرمادي على نحو أخص، ولهذا دلالاته غير المباشرة في الإشارة إلى سعيه نحو حضور متصاعد مع التأثير المتزايد ضمن قاعدة الحركة الدافعة لكل التغيرات التي قد تطرأ على مكوناتها بدءا من معادلها الإبداعي المقترن بعوامل الصعود وصولا إلى عوامل بدء زمنها.
بهرام يغرق في البحث مما يجعله يتخطى الأساليب التقليدية بكل إشكالياتها بمنح المزيد من العمق لعمله، وذلك عبر توظيف المعيش وبلورة اللحظة بإلغاء حركة الزمن الحقيقي والاستعاضة بالحركة في المكان، وما عمله عن فاجعة الطفل الكردي السوري آلان إلا احتجاج على شروط الضرورة.
وبالعودة إلى لغة مضادة للغة الأيديولوجية السائدة يسهم بهرام ودون أن ينفصل عن الموضوع كمعطى قيمي في إيجاد أفق أوسع للتغلغل في آليات تكريس القراءة الإيجابية لعمل يؤمن بأن القيم الإنسانية هي التي تخدم المسألة الجمالية بفعلها الفاعل واليقظ، حتى اختيار أنموذجه المقترح من ذاته، فالطفل الفاجعة آلان والذي استغنى عن الحياة، وعن البحر مكتفيا بقطرات رمل تاركا إياهما في زوبعته الغريبة حيث التعانق مع الأورانج في جره لهامش يتزحزح في كل الجهات.
هل سيتزحزح بهرام مع هذا الهامش أم أنه سينزلق نحو النزاع بين الماء كسيرة ذاتية لوطن كل ملامحه دوائر استحالات لا ظل لها بل نبوءة يسوغ عليها اغتراب؟
هو لا يبحث عن الإثبات، بل يتخذ منه سبيلا إلى الخلاص حين يسعى وراء قضايا مازالت تحمل الرنين المقدس. هل سينزلق بهرام دون غيره من المبدعين حين يخلق الجمال من الوجع وإن بذائقة فاترة؟ فعمله هو سيرة وطن بملامح رمادية أيضا وباتجاه سمات غير تقليدية، حدوده الرب يضع يده على خده، ونحن العباد لا حول ولا قوة لنا، فكل مفاهيم الخنوع لا تكسر جمود الروح.

بهرام هنا يلتقط الأنغام المتنافرة والمتداخلة لتحولات الزمن الجديد القادم من الرماد، التحولات التي لا بد من تفاعلها مع علاقات الإرسال والاستقبال. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل وبعيدا عن الأفق الخاص لبهرام على أنه في هذا السياق الذي يبدأ من مركز دائرة كبيرة كل ألفاظها كتبت بالرماد.
وفي الطرف الموازي لذلك يزيل حاجو الحاجز الرسمي بين المنطوق والمرسوم، وقد لا نطيق هذه الصدمة في الفن ولكن كونه بذلك يطهر الرماد ويجعله مقتحما لكل المعطيات التي قد توحي بعمله هذا.
كان لابد لنا من استعاب تلك الصدمة وإن بآليات تسهم في كسر كل تلك الحواجز التي رسمتها موجات الفنان.
كذلك يبوح لنا وبإلحاح لا يقتصر على الأبنية التكوينية بأن هكذا نوع من التجريب لا يحافظ على الدلالة المركزية في هجاء كيان قائم بذاته، بل يحرره وبوعي متمرس بقبول الاختلاف ولهذا يحتفل بقبح الحياة، وإن بمعطيات تجعلك تهجو الذات أيضا، وربما أراد بهرام أن يخبرنا ما قاله الأديب الإنجليزي جوزيف كونراد بأن مهمته أن يجعلنا نرى، فهل رأينا وجعنا بما فيه من تمزقات إنسانية تغلب عليها أخلاقيات تحتمي بحواجز هي حصيلة خطابات متخشبة ساقها إلينا عن قصد أو دون قصد ذلك الخاضع لمنتوج غير قابل للتوالد، ولا يكلف نفسه أي عناء في تشغيل وعي قادر على استكشاف مناطق غير مأهولة بنا.
لا يكاد بهرام يتشبث بتلك الطريقة في التعبير الفني القائم على إدراك أبعاد سوسيولوجية لشكله الفني، حيث يتحول الجزء الغائب إلى أهم جزء لديه تقارب استحضاره لثيمات تتقفى بالوقوف عند لحظات البحث عن حزمة إمكانات قد تكون التماس مع الآخر أهمها.
شذرات من سيرته
صرخته الأولى كانت في قرية ديرون التابعة لتربة سيبيي الواقعة بين القامشلي والديريك، كان ذلك في عام 1952، بقي هذا المكان مخزونه الذي منه ينهل شلالاته.
بعد حصوله على الثانوية العامة، توجه إلى العراق بداية إلى السليمانية ثم إلى بغداد للدراسة في أكاديميتها للفنون الجميلة، لكن بعد عام واحد تقريبا اضطر إلى الخروج من بغداد، إلى براغ في تشيك، ثم إلى برلين، وإلى مونستر ليستقر فيها ربما إلى الآن، كان ذلك في عام 1974، حيث أكمل دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة بدوسلدوف.
على مدار نصف قرن تقريبا استطاع أن يحرز لنفسه مساحة تليق بمسيرته، فوقف في صف واحد مع كبار الفنانين الألمان، تأثر بهم وأثر فيهم، واستطاع أن يحظى بتقدير نقاد الفن والجمهور ودور العرض والمتاحف. يكاد لم يترك بقعة لم يعرض فيها وبقوة. يعرض أعماله في كبرى الغاليريات العالمية، وتقتنيها العديد من صالات العرض والمتاحف المختلفة.
المصدر: