خالص مسور : الأقليات والشعوب في المنطقة والوطن العربي، الإشكالية والحلول

عندما انطلق العرب المسلمون بفتوحاتهم الإسلامية من المدينة المنورة عاصمة الدولة العربية الإسلامية، تحت شعار إعلاء كلمة الله ونشر الإسلام بين الشعوب كافة وتبليغ الرسالة السماوية، متسلحين بـ(مانيفستو) إيديولوجي يعبر عن الأخوة والمساواة بين البشر حيث لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، والناس سواسية كأسنان المشط، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم، وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون. بهذه الخصال الإنسانية الرفيعة، اندفع المسلمون كالسيل الهادر، ينشرون رسالتهم السماوية التي ساهم في نشرها وإعلائها جميع الشعوب التي دخلت الإسلام، من كرد، وترك، وفرس، وبربر…الخ.

فالثوابت الإسلامية حتى العهد الراشدي – رغم اعتماد عمر بن الخطاب(ر) على العنصر العربي- وقوله حينما طعنه أبو لؤلؤة الفارسي: ( الحمد لله، الذي لم يجعل قتلي بيد عربي). كان لا يفرق بين الأقوام والأجناس الداخلة في دين الله أفواجاً، بل عمل – وكما قلنا- على نشر الأخوة والمساواة بين تلك الشعوب والأجناس الداخلة في الدين الجديد. ومن الطبيعي والحال هذه أن يمتد العرب المسلمون إلى أوطان وأراضي الشعوب التي دخلت الإسلام حديثاً وأصبحت أراضيها جزءاً من الدولة الإسلامية آنذاك ،وأزيلت الحدود العرقية والجيوسياسية بين المسلمين وعاشوا معاً في وطن واحد وأمة واحدة هي أمة الإسلام. إلى أن تم لاحقاً تنظيم إدارة الدولة الإسلامية بتقسيمها إلى ولايات لتسهل إدارتها والتحكم بها وتطويرها.

وفي نظرة متأنية للوضع الحالي والذي هو لايزال نتيجة موضوعية لامتداد العرب المسلمين نحو الأرضي الإسلامية الحالية، نرى أن الأقليات الوسطية أي المتواجدة في وسط أو قرب مركز الدولة قد ذابت لغوياً لسببين:

الأول: هو التقارب اللغوي وربما حتى التفكير بالأصل المشترك مع اصحاب الرسالة الإسلامية من العرب المسلمين.

الثاني: يعود إلى أن معظم هذه الأقليات الوسطية من حيث الموطن، كانت قريبة من مركز الخلافة والعنصر العربي، مما أدى إلى اشتداد الضغط العقائدي والنفسي وتقاطع المصالح المتعلقة بالأمور الحياتية اليومية والمصالح الاقتصادية، حيث كانت الشعوب المحلية المحتكة بالمسلمين تجاراً متحضرون في معظمهم، وتتطلب مصالحهم الاندماج السريع مع العهد الجديد، وبالفعل فقد اندمجوا عقائدياً ولغوياً وعرقياً مع المجتمع العربي الإسلامي، وكان يستحيل ذلك بدون اعتناقهم الإسلام وهكذا كان الحال مع الآراميين والسريان والآشوريين، الذين اعتنق الغالبية العظمى منهم الإسلام وذابوا سريعاً في بوتقة الدولة الإسلامية وفقدوا هويتهم ولغتهم القومية.

واليوم يشكل هؤلاء السكان الأصليون للمدن السورية الرئيسية، كحلب، ودمشق، وحمص، وحماه، على سبيل المثال لا الحصر، وهؤلاء لازالوا يحتفظون بلون بشرتهم البيضاء بخلاف العرب السمر الوجوه.

كما أسلمت في وقت متأخر البعض من العشائر السريانية كعشيرة طي مثلاً، وذاب أفرادها سريعاً ضمن البوتقة الإسلامية. وإذا ما حاولنا أن ندعم رأينا في هذا الجانب ببعض الأدلة فنقول: كان عدد سكان سوريا الداخلية أثناء الفتوحات الإسلامية ودخول جيوش الفتح العربي الإسلامي إليها، من السريان والآراميين ما يقارب المليونين نسمة، ولازال هذا الرقم ثابتاً تقريباً حتى اليوم، حيث لا يشكل السريان أو جميع المسيحيين اليوم إلا 13% من سكان سورية، وبحسبة بسيطة كان عددهم يجب أن يكون اليوم منذ العهد الإسلامي وحتى اليوم – وحسب الزيادة الطبيعية للسكان- كان يجب الا يقل عن 15 مليوناً من الأنفس على أقل تقدير، إذاً فأين ذهب هؤلاء، إن لم يكن قد أسلموا واستعربوا ضمن البوتقة العربية الإسلامية؟.

بينما بقيت الأقليات من الشعوب الطرفية، أو التي كانت مواطنها في الأطراف من الوطن العربي الحالي، تقاوم الانحلال والذوبان وذلك لأسباب منها أن معظم هذه الشعوب لم تكن لها صلات قربى من حيث الأصل واللغة مع العرب المسلمين، بل جمعتهم رابطة الدين فقط، مثل الكرد، والشركس، والترك، والفرس، فهؤلاء أسلموا ولم يذوبوا إلا قليلاً في البوتقة العربية الإسلامية. كما ساعدهم في ذلك وقوع موطنهم بعيداً عن المركز أو في أطراف الدولة الإسلامية أو الوطن العربي الحالي، الذي تشكل بعد التقسيمات التي أجرتها الدول الأوربية الاستعمارية له، كما كانت الحروب والقلاقل الحدودية المتواصلة مع الدولة البيزنطية عامل منع هذه الشعوب كالكرد والفرس والترك مثلاً من الذوبان السريع ضمن الجسم العربي الإسلامي، كما أن البعض من هذه الشعوب كانت حديثة عهد بالإسلام فلم تتح لها الفرصة للذوبان عرقياً في البوتقة العربية، كشعب (الفور) الحالي في دارفور مثلا.

ومن هنا يمكن أن نشير إلى، أن هناك أربعة عوامل حمت الشعوب الإسلامية غير العربية من الذوبان ضمن البوتقة العربية الإسلامية هي:

أولاً: البعد عن مركز الخلافة الإسلامية وضعف سيطرة الدولة على هذه الشعوب الطرفية. أي أن هذه الشعوب إما كانت أراضيها- وكما قلنا- بعيدة عن مركز الخلافة الإسلامية، وإما أن لها حضارة أرقى من الحضارة العربية كالأقباط الذين ورثوا الحضارة الفرعونية، أو لأنهم كانوا بداة بعيدين عن الحضارة والكتاتيب والمدارس الإسلامية كالبربر والطوارق مثلاً. فلم تتغلب عليهم اللغة العربية مثلاً.

ثانياً: الاختلافات في الأصل، واللغة، والعادات، والتقاليد، المتأصلة بقوة ورسوخ في العمقين التاريخي والاجتماعي لها.

ثالثاً: اعتناق البعض منها لديانات سماوية مقاربة للإسلام كالمسيحية واليهودية، حيث أسلم عدد كبير من المسيحيين بينما أسلم عدد قليل من اليهود.

ونضيف رابعاً وأخيراً: الطبيعة السمحة للعرب المسلمين – آنذاك- حيث اكتفوا بأخذ الجزية من الذميين وعاملوا المجوس واليزيديين معاملة أهل الكتاب ولكن هذا فقط في العهد الراشدي.

ولهذه الأسباب مجتمعة، بقيت الشعوب الطرفية ورغم أن لغات معظمها كانت قريبة من العربية، كالبربر، والأقباط، والنوبيين…الخ. ظلت تحافظ على نفسها فلم تطالها الذوبان إلا جزئياً. ولكن – ومن جانب آخر- فقد قضى الإسلام على معظم عادات وتقاليد أو تراث هذه الشعوب، وبقيت لها فقط اللغة مع النذر اليسير من تلك العادات التي كانت راسخة في الأذهان وبقيت عصية على الانحلال والذوبان، رغم أن الخطاب الإسلامي تجاه الأقليات والشعوب المسلمة لم يكن يخلو من إرادة التحول إلى العربية ولكن بالسلم والحسنى، وهو الأمر الذي لم يكن الإسلام ليشجع عليه كثيراً، كما لم يكن هناك القوة والإكراه لتنفيذ ذلك. وقد اعتبر الإسلام العروبة انتماء ولذا جاء التشجيع على هذا الانتماء الطوعي إلى العربية في حديث عن الرسول(ص): (ليست العربية منكم بأب وأم، وإنما العربي من تكلم العربية). وهذا القول ينطوي – في معانيه الأخرى- على الإنسانية والتسامح، ورفع الأحقاد والحواجز بين العصبيات والقوميات، ولكنه يؤدي من جهة أخرى وعلى المدى الطويل إلى التعريب والصهر القومي.

وفي مرحلة تالية في عصر القوميات وخروج الاستعمار من الوطن العربي والمسلمين برزت الظاهرة القومية بقوة عند القوميين العرب خاصة، حيث خفت النزعة الإسلامية نوعاُ ما لدى شريحة واسعة من الشباب العرب المتحمسين بقوة لاستعادة الأمجاد العربية القومية منها، وحلت المفاهيم القومية والعلمانية والاشتراكية محلها في النفوس، وخاصة المفهوم القومي الذي نادى به الشباب العرب المتأثرين بالشعارات الغربية وبشكل متأخر عن عصرها، فشعروا باستعلاء قومي ووقعوا في تناقض مميت حيث اعتبروا الإسلام معيقاً لتطلعاتهم القومية وأنه يساوي بينهم وبين الآخرين فلا مجال للنزعة الإسلامية هنا، وهم الذين أتتهم النزعة الاستعلائية من تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية! وبهذا مدوا حدودهم القومية ضمن المنطقة التي وصل إليها الإسلام كلها، واعتبروا الأقليات والشعوب الداخلة معهم إما ضيوفاً ثقلاء أو دخلاء خطرين على الوطن العربي الذي بات يشمل حتى أوطان تلك الشعوب التاريخية نفسها، والتي أسلمت وجاهدت يوماً ما مع العرب المسلمين لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله.

هذه الأقليات والشعوب المسلمة دخلت مواطنها – في الغالب- في أطراف ما عرف بالوطن العربي الكبير بدل الدولة الإسلامية سابقاً. هؤلاء ومنهم الكرد سكان كردستان التاريخيين أصبحوا اليوم ضيوفاً ثقلاء لدى العرب في كل من سوريا والعراق، أو أتراك جبال في تركيا، أو أعراب فارس في إيران.! مع أنهم يعيشون في أوطانهم التاريخية التي أضحت – وبكل بساطة- وطناً عربياً، أو فارسياً، أو تركياً بامتياز، حينما اقتسمها الاستعمار الأوربي بخطط دبرت بين هؤلاء أخوة الأمس المسلمون، وقوميوا اليوم المتباعدون.

هكذا ذهب جهاد الشعوب – ومنها الشعب الكردي مثلاً- في سبيل الإسلام عبثاً وهواناً في الدنيا، أي أنهم خرجوا من المولد الإسلامي بلا حمص على حد قول المثل المصري الشهير، واقتطف ثماره القوميون الجدد الذين سادوا موطن هذه الشعوب والذين استجلبوا مفاهيم القومية الأوربية في القرن التاسع عشر، وطبقوها بالمقلوب، أرجلهم في الأعلى ورؤوسهم في الأسفل! لأن القومية بطبيعتها إنسانية ترى نفسها والآخر المختلف معها في آن واحد، ولكن بما ان القومية – على العموم – هي فكرة أوربية معولمة ومستوردة ولم تنبت في تربة شعوب المنطقة الأصلية لذا جاءت بهذا الشكل العنصري المقلوب كما  أشرنا. ولهذا أعتقد أن هذا التشنج والعصبية تجاه الشعوب المغلوبة على أمرها والتي تعيش في موطنها ضمن الوطن العربي الحالي أو التركي او الفارسي، ليس في مصلحة أي من هذه الاوطان وشعوبها. بل، جل ما نراه اليوم من مشاكل واضطرابات سواء على المستوى السياسي أو الإخلال في منظومة القيم في سائر هذه المناطق، إلا مثال حي على ما قلناه وأتينا على ذكره. وهو ما يدل على عدم التسامح في هذه المنطقة ككل مع الشعوب المستضعفة المطالبة – ولو جزئياً- بتحسين اوضاعها أو المطالبة بحريتها وتقرير مصيرها بنفسها.

وهكذا تلاقي هذه الأقليات اليوم الكثير من العنت والظلم من قبل الشعوب الأخرى المتحكمة في المنطقة، وأصبحت الشعوب والأقليات ضيوفاً ثقلاء في أوطانها حيث لم يعترف بها القوميون من العرب والفرس والترك بأية حقوق مماثلة، بل تعرضت للتضيق والتنكر لروح الأخوة التي كانت سائدة ليست في عهد الإسلام بل حتى في العهد العشائري، حيث لم تكن العشائر العربية ولا الكردية خاصة ذات نزعة عنصرية في يوم من الأيام، فكثيراً ما كانت العشائر تنضم إلى بعضها ضد الأخرى بغض النظر عن بني جنسها. وحيث لم تكن أي من شعوب المنطقة تعرف العنصرية التي أججت أوارها الاحزاب القومية الناشئة بعد ذلك فيما بينها، وهو ما أساءت إلى سمعة تلك الشعوب إساءة بالغة وانتشر بدل الإخاء والتسامح في المنطقة برمتها، جو من الضغائن والاحقاد ، حتى طفت إلى السطح المآسي بل المجازر التي ارتكبت في العديد من مناطق الأقليات والشعوب في حلبجة، ودارفور، ومجازر الأرمن والكرد في شمال كردستان مثلاً، بينما هناك ما هو تحت الرماد في مناطق أخرى من الشرق الأوسط برمته. ونذكر القول: فقد لعبت التوجهات القومية الخاطئة وبعض الأحزاب القومية الشوفينية- في المنطقة على العموم-  دوراً سلبياً من ناحية التعبئة العقائدية والسيكولوجية معاً، وذلك بتشجيعها الجانب الغرائزي للقومية البدائية أو ما قبل القومية، لأنني أعتقد – على العموم- أن ما هو سائد عندنا (وأقصد منطقة الشرق الأوسط عموماً) من قومية هي عشائرية موسعة ليس إلا، بل هي دون مستوى قيم ومثل العشيرة تماماً، وأن رياح صبا القومية لم تهب في منطقتنا بعد وما يهب منها فهو رياح السموم القاتلة، أي لم تفهم منطقتنا بعد مغزى القومية الإنساني ورسالتها النبيلة في الحياة البشرية عموماً. ومن المؤكد أن من يحرض على النعرات القومية هو متخلف مثله مثل الذي يحرض على النعرات المذهبية والدينية ليس إلا. وهذا يأتي معظمه من جانب القوميات المتسلطة حيث يقول الفلاسفة والمفكرون: لا يمكن للقومية المسيودة أن تكون عنصرية وهي تبحث عن حق ضائع وتدافع عن شعب مظلوم. 

ومن هنا نقول: أن في منطقتنا فسيفساء من الأعراق والطوائف والمذاهب والأديان، تتطلب وضع حلول سلمية ناجعة لها ضمن إطار من الأخوة والتسامح والحق، فليس من مصلحة أحد منها اليوم إثارة النعرات وهضم الحقوق، لأنها بذلك تفسح المجال للتدخلات الخارجية في أوطانها العزيزة، وسيؤدي كما في دار فور في السودان مثلاً، إلى كوارث إنسانية يتحمل ما قبل القوميون نتائجها من أي جهة كانوا.

ولهذا أرى أن القومية بمفهومها العلمي ومحتواها الإنساني، وبرؤيتها للآخر المختلف كما ترى نفسها، سيكون من الضرورة والحتم تلقينها للشعوب المضطهدة حتى تحرر نفسها من الاحتلالات والعبودية، أما بعد التحرير فاعتقد أن القومية لا لزوم للمناداة بها وأرى من المناسب جداً أن يحل محلها مفهوم المواطنة والمساواة أمام القانون، كما هو الحال الآن لدى الدول الأوربية الحالية التي نبذت العنصرية القومية، واعتبرت الأجنبي الذي يولد وهو في الطائرة فوق سماء الدولة، مواطناً في هذه الدولة له كامل الحقوق الوطنية والقانونية.  أي ما أراه هو أن القومية مرحلة أو وسيلة للتحرير ولطرد الاستعمار والاحتلال، وليست هدفاً بحد ذاتها، لأن القومية العالم ثالثية – كما قلنا- بشكل خاص هي عشائرية موسعة لا غير، لا تعبر خير تعبير عن أماني وتطلعات شعوب الشرق الأوسط هذه المنطقة الفسيفسائية المشهد الأثنولوجي والقومي.

ولهذا نرى أن الحل يكمن في بندين رئيسيين:

الأول: إما المناداة بقومية ضمن أطر إنسانية حضارية، أي أن نرى الآخر المختلف وحقوقهم السياسية والثقافية والقومية ضمن إطار الدولة الواحدة والشعب المتعدد، وأن يمتلك الكادر القومي ثقافة الحوار التي ننادي بها ليل نهار، وإظهار الوجه الآخر الإنساني للقومية والتصالح مع الأقليات والشعوب التي تعيش مع بعضها ضمن الدولة الواحدة، لا بالتحريض ضدها والتهجير والإبادة الجماعية لها من قبل القومية الأكبر، فقد أثبتت الأيام أن ذلك عمل لا يجدي نفعاً، فقد يفنى الأشخاص ولكن تبقى الشعوب التي لا تموت أبداً. فقد بقي الشعب الفلسطيني صامداً أمام أعتى الآلة العسكرية الإسرائيلية،  كما بقي الشعب الكردي صامداً في وجه من حاولوا إبادته بالغازات الكيمياوية السامة، فارتكبوا جريمة إنسانية بشعة بكل المقاييس العالمية، وأساءوا إلى شعوبهم وصورة القومية التي ينتمون إليها عموماً، ولكن ذهب هؤلاء بعدما تنازلوا عن شط العرب، وخط التالويك، و14 قرية عراقية لإيران، كعربون للقضاء على الكرد والحركة التحررية الكردية، بينما بقي الكرد في موطنهم فلم يقض عليهم كما أريد بهم. كما بقي الفلسطينيون رغم الحروب والمجازر، وهم اليوم على اعتاب إنشاء دولتهم الفلسطينية المستقلة عما قريب. فنحن في عصر لم تعد فيه الشعوب تفنى بالمجازر كما كان في الماضي البعيد، حينما أباد الأتراك الأرمن وهم في عقر دارهم، ومثلما حاولوا ويحاولون اليوم إبادة الكرد وهم في وطنهم وعقر دارهم أيضاَ، ولكن هيهات..هيهات!.

الثاني: وجوب المناداة بقومية ذات كاريزما وركائز إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإذا تعذر ذلك فيجب عدم اتخاذ القومية شعاراً مصيرياً في دول المنطقة التي تحررت من نير الاستعمار حديثاً، فالحاجة إلى البناء وتوفير عوامل التقدم هو أولى من ذلك التعصب القومي المشتت، لأن هناك ضمن الدولة الواحدة تتناغم أكثر من قومية واحدة مما قد يثير الكثير من النعرات والتعصب القومي البدائي إذا جاز التعبير، ولأنه – وكما قلنا مراراً-  القومية بالنسبة للدولة الوطنية المتحررة وذات السيادة لا ضرورة منطقية لها، فهي بضاعة مستوردة ومنتهية المفعول جلبت من قبل أصحاب اتفاقية سايكس بيكو السيئة الصيت.

ولكني أقول – وبكل أسف- فقد فعلت القومية وفرقت اليوم بأكثر مما فعلته معاهدة سايكس بيكو ذاتها، وأعتقد لهذا السبب حلت نزعة الإسلام السياسي والمتاجرة بالدين محل القومية العنصرية المندثرة في الشرق الأوسط عموماً، حيث توجه معظم الشباب القومي إلى الإسلام لا حباً بالإسلام ومفاهيمه عن الحرية والمساواة والعدالة (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). بل إن الشباب الذين عادوا إلى الإسلام هم أنفسهم القوميون الذين لم يعترفوا يوماً ما بمساواة أحد معهم في الموطن والمنزلة، وإنما عادوا أملاً منهم في أن المناداة بالإسلام، بعدما فشلت القومية في ذلك سوف يحقق لهم أمرين اثنين: أولهما طرد الغرب من الساحة العربية والإسلامية، وثانيهما الاستفراد بالحكم مرة أخرى تحت واجهة الإسلام وليس شيئاً آخر، ولاعتقاد هذه الشريحة أن الإسلام يلبي لها في نفس الوقت الطموحات الشخصية والقومية معاُ، ولكن بشكلهما الأناني والعنصري المتأصلان لدى هذه الشريحة الناشئة والمتهافتة على المصالح الذاتية قبل الوطنية من القوميات المتحكمة.

لهذا الأمر يتوجب على شعوب المنطقة جميعها، نبذ التقوقع القومي والعودة إلى عهدة الوطنية والمواطنة، والاعتراف بثقافة وخصوصية الآخر والقومية الأخرى المتآخية معها في التاريخ والدين والوطن، وبحق الآخر في الحياة الحرة الكريمة واعتباره شريكاً في هذا الوطن لا مفارقاً، وهي الصيغة المثلى التي نراها واجبة التطبيق في المنطقة، حيث الوطن للجميع والأفضل هو من يقدم الأفضل لهذا الوطن بغض النظر عن جنسه وقومه ولونه، لان كل الشعوب هنا – وبدون استثناء- تآزرت وتضامنت حتى المسيحيين منهم تحت راية الإسلام وحررت هذه الأوطان، فلا يجوز التنكر لحقوق أي من مواطني هذه البلدان أو القول بأنهم ضيوف في أرض لم يغتصبوها من أحد، (فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له). وبدون هذين الخيارين سوف يكون مستقبل المنطقة قاتماً وحافلاً بالصراعات والدسائس والتهجير كما هو حاصل في سوريا  العراق كنموذج ماثل، فيجب تحذير أصحاب الحل والعقد في المنطقة من حروب – لا سمح الله- قد لا تبقي ولا تذر، إن لم يترك المتعصبون القومويون – من أية قومية كانت- نظرتهم الأحادية الإنكارية ويشاهدوا الآخر المختلف معهم بعين الرضى والحق. فالإنكار يأتي دوماً بنتائج وخيمة على المنطقة ليس أقلها المجازر والمذابح أو المحن والأحقاد على أقل تقدير.

وفي الحقيقة ومع الأسف فقد بدت بوادر ما نحذر منه في الظهور وخاصة مع العسكرتاريا الكمالية في تركيا، وفي الدول العربية التي تعتنق إيديولوجيا قومية متشددة تقف على رجل واحدة وترى بعين واحدة، وما حوادث دارفور، والقامشلي، وحركات البربر، والأقباط، وجنوب السودان، والحركات الكردية في كل من إيران وتركيا والعراق أيضاً والحروب الأهلية في المنطقة، هذه الأمور التي كان يجب أن تحل قبل أن تسفك فيها كل هذه الدماء البريئة، الأمثلة صارخة على ما نقول وهذا ما لا نتمناه أن يحدث أبداً لشعوبنا وأوطاننا التي نعيش معاً فيها أخوة متحابين.

المصدر:

https://www.welateme.net/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق