العروبة في سوريا والعراق بعد الربيع العربي

د. سربست نبي
أستاذ الفلسفة السياسية- جامعة كويه
هل استنفدت العروبة كفكرة زخمها التاريخ؟ بعبارة أخرى هل ستصمد العروبة التي بشّر بها زكي الأرسوزي وساطع العصري ونظّر لها ميشيل عفلق، ومحمد عزة دروزة وقسطنطين زريق.. وغيرهم، أمام التحديات السياسية والاجتماعية، التي تعصف بالعالم العربي منذ أكثر من عقد؟ نعني العروبة التي سادت، كسلطة قومية في سوريا والعراق، ممثلة بأيديولوجيا البعث، وقبلها الناصرية في مصر، وكانت عنواناً لشرعية السلطة المستبدة في هذه البلدان، احتكرت الحياة العامة فيها، واستلهمت شعاراتها السياسية ومطالبها منها، حتى استحالت إلى وحيّ مقدّس لرسالة الدولة، التي وُصِفت بـ( القطرية) في أدبيات البعثيين والناصريين. وتعني ( القطرية) في هذا السياق، الدولة المدنسة( اللقيطة) في أتيقا العقل العروبي، إنها دولة” الخطيئة” التي نشأت عن العلاقة غير الشرعية بين النظام الكولونيالي والتاريخ العربي المعاصر. وما على هذه الدولة إلا أن تتطهر من خطيئة ولادتها، تنفي ذاتها، بأن تتبرأ من نسبها العارض، لتعود وتلتحم مع هويتها الأشمل لتشكّل إطاراً لإمبراطورية قومية، متماهية مع ذاتها، تمتد( من الخليج الثائر وحتى المحيط الهادر).
تواجه العروبة اليوم كأيديولوجية سردية شمولية، منذ نشوئها أواخر القرن التاسع عشر، رابع أكبر تحدّ تاريخي لها، ولعله سيكون التحدّي الأخير الذي يؤذن بزوالها من على مسرح التاريخ كما عهدناها، دون أن يعني ذلك أن المشروع القومي العربي( التاريخي) سيزول بالضرورة بدوره.
العروبة، مثلها مثل النزعة( الطورانية)، قامت على مقدمات الإقصاء والنفي للثقافات التاريخية وإنكارها، وكانت رومانسية إلى حدّ كبير وغارقة في غيبوبة اللاتاريخانية. فضلاً عن أنها عمدت إلى ترقيع نفسها بقيم دينية وعناصر ماورائية وأساطير، اكتسبت معها قداسة شبه دينية، لا تتناسب أبداً مع وعي حداثي بالانتماء، كان قوامها الانتماء العرقي والولاء الديني والطائفي، وهنا كمن نقطة ضعفها الرئيسة. في حين أن الطورانية في صيغتها الأتاتوركية عمدت إلى حسم خيارها بانحيازها إلى علمانية راديكالية لم تعتد كثيراً بالتاريخ الديني والميراث الروحي للشعوب التركية وأساطيرها. وأحلّت( لوغوس) مركزي جديد لوعي الانتماء هو مفهوم( المواطنة) التركية، الذي كان بدوره مفهوماً عرقياً خالصاً، خالياً من أيّة تعددية ثقافية. الأمر الذي منحها زخماً تاريخياً لمدة قرن من الزمان استمرت به الدولة التركية ولاتزال، رغم ما تواجهه الآن من انقسامات مجتمعية وثقافية متأصلة في نشأة الدولة بالذات، كالمسألة الكوردية والأرمنية…الخ
مثّل حرب فلسطين، في منتصف القرن العشرين، أول تحدّ تاريخي لوعي الانتماء العروبي. وفشلت العروبة في إيجاد وحدة في الموقف السياسي سواء على مستوى الموقف الرسمي أم الشعبي. وكانت العروبة هي الشاهد الأبرز على هزيمة العرب أمام مجتمع ناشئ وحديث بالكاد فطم لتوّه من ثدي النظام الكولونيالي الغربي، لتغدو فلسطين بعد ذلك صرّة أحلام العروبيين، في الوقت الذي تحوّلت فيه حلم أو أسطورة( شعب الله المختارة) إلى واقع عياني حيّ، متفوق يتحدّى شعارات تلك الدول القطرية، التي كانت تستهدف إزالته من الوجود وسحقه .
التحدّي الآخر، الذي واجهته العروبة كان في العقد الأخير من القرن العشرين، وبدأ باحتلال الكويت واستمر حتى سقوط بغداد سنة 2003. برهنت العروبة خلال هذه الحقبة عجزها التامّ في أن تكون هويّة مشتركة وموحِدة للنظام العربي. لكن من المهم الإشارة إلى أنه للمرة الأولى راح العقل العربي يكتشف خلال هذه الحقبة، تناقضات العقل العروبي ومفارقاته، المتأصلة في ممارسات نظم الاستبداد العروبي ومواقفها، وتجلّت في سلوك أكثر النظم تشدقاً بالوحدة والحلم العربي والأشدّ بطشاً وقسوة بحقّ شعوبهم، حين غامر صدام حسين بغزو واحدة من أكثر الدول العربية استقراراً ورفاهية مزدرياً بالحدود السياسية لدولة العربية جارة للعراق. وهكذا فقد ألحقت سياسات نظم الاستبداد العروبية ضرراً تاريخياً بمصالح العرب والمجتمعات العربية، أكثر بكثير، من” المكائد الإمبريالية” التي افترضها أو تصورها منظري العروبة أنفسهم
لكن التحدّي الأشدّ، تمثّل في عجز الأيديولوجية العروبية حتى الآن، في أن تكون هالة سياسية أو خطاباً نظرياً للمصالح المادية المشتركة للمجتمعات العربية، وأخفقت، جزئياً وكليّاً، في أن تكون مبرراً منطقياً، أو حتى حافزاً معنوياً، لخلق سوق عربية مشتركة، حتى الآن. وظلّت، بصيغتها المعهودة، في أحسن الأحوال مجرد حلم نوستلجي، وتعويض عاطفي عن حالة الإخفاق والتردّي الذي تعيشه المجتمعات العربية الراهنة.
لم تصلح العروبة حتى هذه البرهة التاريخية في أن تكون أساساً جامعاً لمواطنة عربية حديثة، فضلاً عن قصورها في أن تكون إطاراً لنظام ديمقراطي حداثي. بخلاف ذلك شكّلت على الدوام مطية لنظم الاستبداد، كما تمت الإشارة، وغطاءاً لمغامرين جدد وانقلابيين اغتصبوا باسمها السلطة وإرادة الشعوب، كما حدث في العراق وسوريا واليمن. ناهيكم بأنها كانت على الدوام خميرة للانقسامات السياسية العميقة في المجتمعات العربية. وهذا ما برهنت عليه الوقائع التاريخية الأخيرة لانتفاضات شعوب العالم العربي.
شكلت انتفاضات ما يسمى بـ( الربيع العربي) التحدّي التاريخي الأخير والأخطر للعروبة. وعوضاً من أن ينتج الحراك السياسي والاجتماعي الأخير وعياً تنويرياً مشتركاً للمنتفضين، ويغدو نطاقاً سياسياً وأيديولوجياً لتوحيد مطالبهم. فقد تحلل إلى عناصره الأولية ليغذي أشكالاً متطرفة من وعي الانتماء وبرهنت وقائعه على هشاشة هذا لدى المواطن في الشارع العربي، وهنا يكمن المأزق السياسي والأيديولوجي العميق لهذه الانتفاضات في سورية وليبيا وتونس واليمن.
اختزل النظامان العروبيان في سوريا والعراق الهُوية الوطنية إلى انتماء واحد، مهّد للتعصب المذهبي والعرقي، وأسس الاستبدادين السياسي والديني، وعمل على إقصاء الآخر المختلف، وأنكر انسانيته وجدارته واستحقاقه. وحال هذان النظامان وحكمهما دون خلق وعيّ مشترك بالانتماء لدى السوريين جميعاً أو العراقيين، وهو الذي دفع بالأوضاع إلى نزاع داخلي مروّع، طويل الأمد، في البلدين، يمكن وصفه بالتدمير الذاتي، المستمر والمتواصل حتى هذه البرهة.
من المؤكد أنّ العنف ينمو لدى الأفراد ويتفاقم عندما يترسخ لديهم إحساسٌ فريد بهُويّة دينيّة أو مذهبية أو إثنيّة، يعزز من تمايزها وتفوقها. إنّ رفض الآخر الناجم عن هذا الشعور أو القناعة هو -غالباً- أحد المحفزات الرئيسة للنزاعات الأهلية والمواجهات الطائفيّة. وعندما نتأمل الصراعات القائمة حولنا وبين ظهرانيينا، يتبيّن لنا أن من أهم المصادر التي تغذّي هذه الصراعات؛ الزعم بأن الناس يمكن تصنيفهم تصنيفًا على أساس الدين أو المذهب أو العنصر. وتجربة السوريين المريرة في الأعوام الأخيرة من القتل والتدمير والتهجير لا يمكن تصنيفه إلا في خانة نتائج هذه الذهنية العنصرية والمذهبية.
كرّس تسلّط النظام العروبي في سوريّا عملية الارتياب المتبادل بين المكوّنات الأصليّة وكرّس حالة من عدم الثقة والانقسام بينها خلال أكثر من نصف قرن. من هنا راح يتلاعب على الأهواء والأمزجة الطائفية والعرقية الراسبة في وعيها، ليُظهِر نفسهُ كمصدرٍ وحيدٍ للتماسك الوطنيّ والقومي. وعلى نحو أشدّ تطرفاً وخبثاً دأبَ البعث السوريّ الحاكم على تغذية الارتياب والحذر المتبادل بين الهويّتين العربيّة والكرديّة وكرسّ ذلك لدى الأغلبية العربية السائدة عبر تقديم صورة مشوهة عن الكرد وأهدافهم السياسية، بوصفهم عنصراً مشبوهاً ومرضياً في جسد العروبة، ينبغي التخلّص منه بشتى السبل، وهذه الصورة ورثتها المعارضة الإخوانية- المؤتلفة وظلّت أشدّ إخلاصاً من النظام على التمسك بها وتبرير كراهيتها المقيتة للكرد والمكونات السورية الأخرى. لقد دأب النظام على رسم خط فاصل بين الهويّتين كنسقين متوازيين لا يلتقيان ينبغي لأحدهما أن يسود على حساب الآخر. وأسّس مجموعةً مركزيِّة من التقاليد السياسية القهرية، الحاجبة والعازلة على الكرد، وجعلَ الهويّة العربيّة ضاغطةً قاهرةً متسلِّطة، والهويّة الكرديّة راضخةً مقهورةً مغلوبة، تحت حكم الاستخبارات والعسكر.
إن أخطر محاولات التعسف بحق الواقع والتاريخ، هو السعي إلى فرض نموذج أيديولوجي نظري على المجتمع قسراً، ومن ثم العمل على تطويعه واكراه حركته على الاستجابة لتابوت النظرية، دون أية مراعاة لخصوصيات المجتمع الثقافية أو القومية والإنسانية، مما يفضي في نهاية المطاف إلى تفكيك المجتمع وانهياره. وهذا ما فعله البعثيون في سوريا والعراق، من خلال فرض نموذجهم( براديغم) الأيديولوجي( العروبة) ونجم عنه حالة الانهيار والتفكك الشاملين، التي نشهدها في المجتمعين السوري والعراقي. إنها النزعة الأيديولوجية الإرادوية، التي تقود بالضرورة، عند التطبيق، إلى الاستبداد بحق المجتمع وقمعه، وبالتالي المصادرة على تقدمه ونفي حركة نموّه.
العروبة، كما عهدناها في صيغها الأيديولوجية، كما بشّر بها آباؤها، ستكون أكبر الخاسرين على أرض سوريا، مثلما خسرت على أرض العراق، سواء شئنا أم أبينا. إن الأيديولوجية العروبية، نظرية وممارسة، كمنظومة سردية ستنزاح أمام امتداد منظومة أيديولوجية أخرى( إسلام معولم) ستحلّ محلّها إلى حين كما يبدو، وستنبثق انتماءات اجتماعية وولاءات سياسية قوامها أيديولوجيات محلية قبل حداثية. بكل حال سوريا كتنظيم دولتي ستحتاج إلى إعادة هيكلة على أساس الاعتراف بهذا الواقع الجديد وتستمدّ منه مبرر وجودها. ما يبدو ملحاً من الناحية التاريخية هو التأسيس ضمن أفق ديمقراطي تعددي وعلماني، وإلا سيكون التقسيم هو المآل الحتمي للبلد، بلا مكابرة أو معاندة أيديولوجية فارغة، دعونا نبدأ من هنا. هنا رودوس، انزل هنا.
مقال رائع جدا… يصف بايجاز حقيقة واقع وتاريخ الفكر القومي العروبي بنزعتها الاستبدادية والتسلطية على المجتمع السوري خلال المئة عام الماضية..
الف تحية لكاتب المقال…