الكاتب والناقد خالص مسور يكتب :(أحمد حسيني) المزج بين الأسطورة والواقع

“عندما تغزل في كبدك الخوف الأبدي
مغازل هذا المساء
على أعتاب الحدود، وفي أحضان ليال
غاب فيها القمر
تتحول حياتك إلى سخرية ونكت فسيحة
وحزام والدتك، وأشواك صيف طوروس اللطيفة
كان خالك يدير ظهره لرياح القدر، ميمماً نحو معجم التخوب المتلاطمة
كان يتفرس فيك وفي اندفاعك، وبنظرته الحادة كان يرمق “غزالي”، وخطوط أعمدة معجم التخوب المتلاطمة
كان دخان السيجارة يتلوى نحو حقول الألغام، ولهاث رجال الحماية، ينسكب فوق رعبك.
وفجأة سحبتك غزالة من يدك، ميممة بك نحو البيادر”.
هنا نقول: أن عنوان القصيدة المؤلف من كلمة واحدة لاتساعد كثيراً على فك مغاليق النص الدلالية، وهو من سمات الشعر الحديث الذي يوغل في الغموض بعيداً، ولكن القصيدة التي تدخل ضمن الشعر القصصي، تفصح عن نفسها من خلال عباراته الفولكلورية المنسوجة في البيئة الكردية بعناية شديدة مثل: المغزل- التخوب- أشواك طوروس- الخال- دخان السيجارة- البيادر…الخ. وعبارة المغزل التي جاءت بصيغة الفاعل، أشاعت جواً من الحركية في فضاءات مضمون القصيدة، التي تفصح عن نفس شاعري طويل، متمثلة في الجمل الطويلة التي تدل على الهدوء والثقة بالنفس، حيث استطاع الشاعر بخياله الخصب العميق، تركيب الصور وتلحيمها ضمن سياقات مشاهد درامية، مكنت المتلقي من شم رائحة الماضي بكل حسناته ومآسيه، وفيها تماهى الماضي بالحاضر، والزمان بالمكان، فخرج الشاعر عن قوقعة جسده المادي، محلقاً بخياله السابح في فضاءات الرمزية بين النجوم عالياً، يستقرأ مصير وطنه المجهول، وقد انعكس ذاك الخيال على مرآته المادية فانثالت عليه الخواطر والأحاسيس انثيالاً، رابطة بين مشاهد وصور متتابعة من الحياة الفولكلورية للمناطق الحدودية الكردية، حيث تبدي القصيدة تلاحماً نغمياً دلالياً وانسجاماً في السياقات اللفظية، لتدل على أن الشاعر متمكن من أدواته التعبيرية، قادر على التلاعب بالألفاظ حسبما تقتضيه الموقف والرغبة، ويتملك ناصية اللغة بموهبة إسلوبية غاية في السلاسة وعذوبة التعبير، بحيث يعطيك في كل بيت، وشطر، وعبارة شيئاً جديداً، يثير الفضول والإنتباه، ويطرد السأم والملل من النفوس، وذلك من خلال مارأيناها من مشاهد حياتية رسمها بتلك الكلمات والجمل،التي أكسبت النص إيقاعاً داخلياً، وتوتراً صوتياً دلالياً مدهشاً، فالحسيني تائه في بحر من العشق الصوفي لوطنه، الذي يعبر عنه من خلال لغته المترسخة في داخله، لتتحول اللغة إلى رمز لدموع الأم الباكية، وقد بلغ به الوجد إلى حد الفناء الصوفي، في إيقاعات الزمن الكردي العصيب، في وهج شاعري ساحر أخاذ، ثم الإبحار في عالم الأفلاك والتخوب والحدود، والقيام برحلات زاهية في أعماق الصور الأسطورية للوحات حياته الجديدة التي رسمها بمهارة فائقة، والتي تنكشف له بكثير من الفتنة والصفاء، حيث تمتاز صوره بالإبتكار والفرادة وقوة الإيحاء والرمزية والمجازية. فهناك فيض من صور تتلاحق في تدفق إبداعي مثير، قد يعجز القارىء في كثير من الأحيان عن فك مغاليقها ومعانيها، معبرة عن عمق الجانب الوجداني، وعمق ظاهرة التخييل لدى الشاعر، وعن رؤيته الفلسفية إلى الحياة والكون، وقد تلتحم صوره الفنية الرامزة دوماً، مع المحاور الفكرية للنص محملة بالمعاني الإيحائية في الحدث الفني الكلي، وتنشيط فعالية النص، حينما يستغل الشاعر كل العناصر الديكورية لديه، نازعاً إلى صوره المبتكرة يعبر بها عن أحاسيسه التي هي في نفس الوقت أحاسيس شعب ووطن سليب، وفي نصوصه تتحلق الصور التي تربط الزمن ودلالته، فينقلها إلى دائرة اللوحات الفنية التشكيلية، وإلى مشهد حياتي مبتكر نابض بالحيوية والحركة، من خلال تدفق الظواهر الجمالية للوحاته وحركية وطغيان الأفعال النحوية، يمنح اللوحات النصية بعداً حيوياً، يتجسد في صورة إنسان ينطق. فالشاعر رأيناه كمصور فولكلوري بارع، ورسام حاذق للوحات تراثية تغشاها مسحة من سيمائية التأثر والحزن الدفين. وفي كل لوحاته يظهر كفنيٍّ متخصص في التراث الكردي، وقد أفلح في قصيدته هنا في التقديم لفكرته بصورة ساحرة للبيئة االكردية الإجتماعية – الطبيعية – السياسية أيضاً. فالشيخ الشاعر أحمد الحسيني مهندس بارع في رسم ملامح حياة جديدة لم يتطرق إليها غيره بمثل هذه الكثافة والشاعرية، فإذا كان في الحياة هناك مفهومي الخيال والواقع، فإن الحسيني قد جمع بصوره التعبيرية المبتكرة بينهما، أي بين سحر الخيال وجمالية الواقع، وأضحت أشعاره ميداناً رحباً لظواهر ومفاهيم حياتية من نوع جديد، أبدعها بجمل وتراكيب، استطاعت أن تضخ إكسير الحياة حتى في الشجر والحجر، وكل شيء في قاموس حياته الجديدة حي ينبض بالحركة والجمال؛ من قبيل:
(حكة ترابك. برية جسدك. أقدام صرخاتك. فص بيت النمل. معجم التخوب. قصائد التخوب. ورود الخوف. الغبارالحارة. أفق أنينك. أفق الدمار…الخ). فهذه هي حياته السحرية الجديدة التي ابتكرها الشاعر في سوية أفق سماء قصائده الجميلة. وفي هذه القصيدة يصورالشاعر الحالة الراهنة للبلاد الكردية، وحالة التقسيم والتجزئة التي تعرض لها وطن الكرد، ومشهد شاب كردي، يريد اجتياز الحدود مع خاله إلى الطرف الآخر، ثم حالة القلق والترقب والخوف من قبل الخال على مصير ابن اخته، وجاء بالخال هنا لأنه أكثر حناناً والتصاقاً بالأم ووليدها، قلق على مصير ابن أخته الشاب، الذي بدا يخط أولى خطواته نحو المجهول ولغاية سامية، رغم أنه سيتنقل بخطواته الحذرة ضمن وطنه الواحد، ألا أن هناك من يترصده ويعد عليه خطواته وأنفاسه، وقد بدا دخان سيجارة الخال يتلوى متثاقلاً – كحلم وخيالات ذاك الشاب – نحو حقول الألغام الخطرة، وحيث تشكل الألغام الرمز المزمن والثقيل لتقسيم موطن الكرد وترابه، وفي لحظة تأمل جنح الخيال بالخال بعيداً، وبدا يتدافع في مخيلته مشهد مستقبل ابن اخته، الذي استعد معه للرحيل لاقتحام ذاك المصير الضبابي المجهول، مشهد بدا متسربلاً بكثير من السحر والإتقان، حيث أبدع الشاعر المشهد في مخيلته بذكاء كبير، مما يدل على قوة التخييل لديه وعلى إحساس شاعري رهيف، يحفز الذكريات من أعماق اللاشعور، ليستعيد ذكرى بطولات خمدت بريقها، وتاريخ طوى الزمن صفحات أمجادها.
وفي المشهد الأول من القصيدة يقول الشيخ الحسيني:
(- من خلق الماء؟
فك خالك جود الماء من حول خصره
والتفت إليك
من دموعنا ياولدي، من دموعنا!
أول دمعة مست شفاه الأرض كانت دمعة والدتك.
مع دموع والدتك
ومن أكباد جرحى هذا الوطن
الجداول
و
الأنهار
انبثقت
– إذاً فأنا الآن أرتوي من دموع والدتي أيها الخال؟).
بدأ الشاعر بسؤاله المحير عن الماء كيف خلق ومن خلقه، ليلفت نظر القارىء ويهيئه لتلقي ماهو آت. ثم بدا يصور مشهداً واقعياً من الحياة الكردية البدوية أو حالة السفر في الجبال الكردية
(فك خالك جود الماء من حول خصره).
وهو مايناسب موضوع الشاعر، والمشهد بدا مفعماً بالأصالة والتشبث بالأرض، حيث الدموع التي سالت مياهاً، انحدرت من عيون والدة الشاب الكردي، وهنا تشابه مع الأسطورة المصرية التي تذهب: إلى أن الأمطار ماهي إلا دموع عيني الإلهة إيزيز الباكية على زوجها أوزوريس الذي قتله عمه الشرير الإله سيت. مؤكداً ـ في الوقت نفسه- على أصالة وعراقة الشعب الكردي في وطنه متمثلة في كلمات مثل:
(جود الماء. دموعنا- الأنهار. الجداول. دموع والدتك. انبثقت….)، أي أن الشاعر يريد هنا التوكيد بأن حتى أنهار كردستان، بحيراتها وجداولها، هي انبثاقات دموع أمهات الكرد الحزانى، وكل قطرة من ماء هذا الوطن هي دموع هذه الأمهات الباكيات، وهي المفاجأة من هذه المعلومة الجديدة التي تعلمها ابن الأخت من الخال!
(إذاً فأنا أرتوي من دموع والدتي أيها الخال؟).
دموع مست شفاه الأرض، تلك نسيج لقصيدة حية متكاملة ومتماسكة ترتبط عناصرها الداخلية والخارجية، بما يمنعها من الإنفلات والتناثر، حيث التناسق بين القيم الفكرية والعاطفة الوطنية المشبوبة. وكفاءة القصيدة عالية، حيث لايحتاج القارىء والمتلقي هنا إلى الإستعانة بالقواميس اللفظية، لفهم الموضوع بمزيد من الوضوح لاستجلاء الأمر، وهذه ميزة الشاعر المبدع، والأسلوب الذي جاء بضمير المتكلم كان في غاية السلاسة والعذوبة، وعلى شكل محاورة درامية معبرة عن الحالة الكردية المعاصرة، حيث تتعاقب فيها الصور الشعرية ذات الصياغة الشاعرية الجميلة ضمن فكرة القصيدة والتي ألمحنا إليها سابقاً مثل:
(سنونو الظلام. أزدهار الموت. خزينة عرق البغال. مغازل المساء. لهاث رجال الحماية. أنين التراب. آهات نظرات الصباح).
وهناك تعارض واضح بين البداية من جهة، الذي بدا هادئاً في سياقاته من حيث الألفاظ والصياغة الفنية التي بدأت بالفولكلور، حيث الفولكلور يتصف ماعدا الجانب الحربي منه، تتصف كلماته بالهدوء والتأمل والبعد عن الإنفعال، وبين الخاتمة المجلجلة من جهة أخرى، وهذه صفات شاعر متمكن من أدواته التعبيرية، خصب الرؤى والخيال.
بينما تدفقت السيول في خاتمة القصيدة، وعندما تفيض الأودية بالسيول، تنثال نحو القرية ـ حسب تعبير الشاعر – أو الطرف الآخر كل أوزار الحدود وأوساخها؛ وبذلك كانت لهجة الأمل والتفاؤل والإنتصار واضحاً على نهاية القصيدة، وقد أكد عليها هذه الصورة الشعرية مع السيل ومع هذا الشطر المعبر:
(وكان جانو ينقر بيضة الحياة).
والبيضة هي رمز الحياة، ونقرها يدل على استمرارية الحياة وولادة آمال جديدة.
*
في قصيدته، “”، يقول الشاعر:
(لون ترابي
ينجرف نحوك
كان انتفاض دمك يهدأ
وماء صوتي
فوق جراحاتك يجري
كان ينعقد لسانك
وتتوه بوصلتك
فلم تميزنا عن بعضنا
أنا وأنت…).
وقد أحسن الشاعر هنا اختيار الألفاظ التي كونت لحمة النص وانسجامه، من خلال السياقات التي وردت فيها، حيث انزاحت في بعض المواضع عن معانيها المعجمية المعتادة، وبذلك بدا الشاعر متحكماً ببلاغية الألفاظ المعبرة عن موضوع النص، وقد عبر عن موقفه من همومه الوطنية وعن جراحات وطنه، من خلال تلك الألفاظ المتناسقة التي استطاعت أن ترسم حقلها الدلالي الخاص بها، والذي هو جزء من الحقل الدلالي العام، فكان صوت الألفاظ متميزاً مثمراً وغنياً للعملية التواصلية، كما ساهم تكرار بعض الكلمات في البناء الدلالي الرصين للنص، حيث أفلح الشاعر في الإتيان بكلمات وألفاظ تساعد حروفها على التواصل والإلتقاء ضمن سياق تركيبي مرن، مما يجعل اللفظ سهلاً على السمع واللسان معاً، وقد ساعده الإشارية في الضمير المخاطب للوصول إلى المشاركة الوجدانية والتفاعل الحيوي والشعور بالمسؤولية، لتساهم في رسم جمالية النص الشعري المتمثل في:
(انجراف لون التراب. ماء صوتي. تتوه بوصلتك). وقد شبه اللون بتربة تنجرف، ولكن العبارة أضفت المزيد من الغموض على بنية النص، وهو غموض غرضه لفت النظر إلى ما يذهب إليه الشاعر واستدراج القارىء للتأمل والإجتهاد في استخلاص المعاني، والدخول في عالم النص المفتوح على شتى الإحتمالات.
(بين حكة تراب صدرك ونحرك
كان أنيني… يعلو
وتحت شليل ثوبك وأقدام صرخاتك
لم أتخثر
ولم أختمر
من
وبإعصار نشوة برية جسدك
وبالفص الأسود لمسكن نمل منحدرك
أنتشي فرحاًً
حيناً
وحيناً… خائفاً..).
ثم يقول:
(عندما
تمسكت بشجرة خاصرتك
كنت أتمايل وحدي أمام العواصف
أتأرجح في أفق أنينك
وفي منعطف الطريق
أصبحتَ
كما الشمعة تنتحر
ودمدم، وحفلة طرب حجرية
وضوضاء شعرك الصبور
وشروق نهديك، وهدهدة سرير طفولتك
ألقيتها في وجه رعشة الإله).
يبدو الحسيني هنا كثير الإعتزاز بوطنه كردستان، تمتح قصائده من حب الوطن ومن آهات قلبه وأنين جراحاته الدامية، إنها قصائد من وهج احتراق الروح لدى هذا الشاعر المبدع الغيور، يذوب في عشق الوطن يسكر في حبه ولايرتوي من لذة شرابه، يتحد مع تاريخه وترابه، مع نهره وطيره، شجره وحجره، متمسك بهذا الوطن لافاً بيديه القويتين حول خاصرته، تميد به العواصف الهوجاء والمحن الشداد، يتأرجح فوق أنينه، ولكنه صامد كالطود الشامخ، يستعيد ذكرى تاريخ وطني مجيد، وبطولات قلعة دمدم وملحمة الخان ذي اليد الذهبية. ولكنه يشير إلى أن الوطن لايتحرر بالعودة إلى الماضي، ولا بالحجب، والطلاسم، ولا بالدعاء إلى الإله، الذي بدا بدوره مرتعشاً أمام ما يجري لشعبه ووطنه، بل الأوطان تتحرر بهمة شبابه وسواعد رجاله، ولذلك أظهر للعالم بطولات ملحمة قلعة دمدم، وجمال الوطن، ومرابع الطفولة فيه، ليقول هذا هو تاريخنا، وهذا هو وطننا الآسر الجميل، ولن نتخلى عنه مهما عظمت المحن والمصائب، ثم ألقى بهذه جميعها في وجه الإله الراعش، ألا فالتهي برعشتك أيها الإله ولكننا نحن الصامدون، وكأني بالشاعر يردد المثل الشعبي الشهير: “ماحك جلدك مثل ظفرك”. فكانت الكلمات التي عبر بها الشاعر عن إحساسه العميق تجاه وطنه الجريح تتمثل في:
(الصرخات. العواصف. الأنين. الإنتحار. انطفاء الشمعة. منعطف الطريق…الخ). تلك كلمات تعبر خير تعبير عن حالة وطن الشاعر في ظل العواصف الهوجاء التي داهمته على مر السنين. كما أفلح الشاعر من خلال قصائده في رسم لوحة فنية بارعة بريشة ذات إيقاعات سريعة متتالية، امتزجت فيها الواقع مع حرارة القلب والإحساس الإنساني العميق، وقد اعتاد الحسيني ـ وكما قلنا- أن يضعك بأشعاره في لون حياتي جديد ذات رقة وعذوبة، فيضفي الحياة حتى على الجماد ويجعله ينطق ويحس كالإنسان تماماً. فالشاعر كالمسيح يحيي ماحوله من أموات وجماد بلمسة من عصاه السحرية، نرى ذلك من خلال:
(أنين له أفق، وجسد كأنه برية، وأقدام لها صرخات، وتراب لها أحضان…الخ).
وفي هذا البيت الرائع
(في ضروع الفلك اجعلوا نداءات الدم تختمر).
وهنا أوصل الشاعرالأرض بالسماء، حينما طلب بسكب الدماء بدون حساب، حتى يختمر الدم ويتخثر كالحليب ليس في الأرض فقط، بل في ضروع أفلاك السموات السابعة، تلك صورة رائعة لمعاني التضحية، ورنين صدى الدم المراق على مذبح الوطن، دم اهتزت له الأرض والسموات، هنا ثمة ربط بشكل ابداعي متقن بين الواقع والمتخيل، الكلمة الواقعية وصفتها المتخيلة.
(الضرع. الفلك. النداء. الدم. نداءات/ تختمر).
إن الشاعر الحسيني بدا لنا يرسم لوحات مبتكرة ببراعة فائقة، إنه فنان لقطات نادرة لما خفي عنا من الحياة الجميلة، فيضعك في محيط بحر حياة زاخر بالجمال والخيال، فلن تتمالك نفسك من التجاوب، والإندماج، والإبتهاج، مع المعاني الشاعرية الجديدة، وكأن لسان حالك يقول: كيف سلبت مني هذه الحياة الجميلة ياترى؟ وهو إلى جانب هذا وذاك، مهندس ألفاظ مبدع، قل من يجاريه فيها، وهو ما يجعل خارجك يلتحم بداخلك، في ملحمة حياتية لم يعشها من لم يقرأها له جيداً.
*
وفي قصيدته، “”:
(مثلما أهيىء دموع الرحيل
فهىء أنت سهامك أيها الموت.
لاتخف من موتي أيها الموت
لقد تركت اعصاري في عشك.
لقد كبرت شبابتي في مقبرة عامودا).
غرائبية هذا العنوان تدل على المقدرة التخييلية لدى الشاعر، وهو ما يدل على أن الشاعر يطور لغته وصوره الشعرية بشكل متوازن ومكثف، وما يعتبر أيضاً نوعاً من تطور في ذهنيته الفكرية والجمالية معاً، بالإتكاء على مستند تراثي واقعي من البيئة والحالة الكردية ماضياً وراهناً، كما يدل على الهم الوطني والقومي أيضاً، هذه الواقعية مميزة في الفعل الحاضر (تنبت) الذي يشيع جواً من الحركية والإنفعال في مضمون القصيدة، والإنفعالية في عنوان القصيدة تعكس حالة من اللاشعور لدى الشاعر في مقاومة الظلم والعدوان، حالة استطاع الشاعر تجسيد صورها بكل جلاء ووضوح، رغم الطابع الغرائبي لبعض كلماته، مما أضفى عليها الكثير من الإثارة والتشويق. وجاءت كلمة (الخوف) بانزياحه الجديد بليغة الدلالة في مبناها ومعناها، لما فيها من قوة تحد ومكابرة على المصائب، ويبدو من خلالها الشاعر مستهيناً بالموت غير هياب ولاوجل في سبيل مبادىء وأهداف سامية، فهو لن يبالي بالموت، بل يتحداه في عقر داره، بل أن الشاعر يبدو وقد جهز نفسه للرحيل والخلود الأبدي، معبراً عن جبروته أمام الموت بـأنه (العاصفة التي اقتحمت عشه)؛ وقد يخافه الموت وهو لايخافه.
(لاتخف من موتي أيها الموت لقد تركت اعصاري في عشك).
فهو هنا يتشابه في موقفه من الموت مع موقف الشاعر الانكليزي (جون كيتس) الذي عشق الموت في رسالته إلى خطيبته يقول فيها: (هناك أمران خصبا الجمال أحلم بهما: حبك وساعة موتي). مع فارق، وهو أن الحسيني لايعشق الموت المجاني، بل الموت في سبيل هدف سام، ووطن مكلوم، وشعب غدر به التاريخ والجغرافية معاً، فيرى الموت شيئاً عادياً، حيث يظهر هنا فلسفة الشاعر تجاه الموت، مظهراً الكثير من الشجاعة أمامه.
وفي هذا تكون وقفته أكثر شجاعة أمام الموت، من وقفة سيف الدولة الحمداني، وأبلغ من المتنبي في التعبير عن شجاعته أمام الموت، يقول المتنبي في شجاعة ممدوحه:
وقفت وما في الموت شك
تمر بك الأبطال كلمى لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
هذا التوازي بين (الموت- والردى، وبين هزيمة- وباسم) ما يدل على الإنتصار وإركاع الخصم في نظر المتنبي، له مايقابله بل أكثر قوة منه ـ وكما قلنا- في التعبير عن الشجاعة والإنتصار لدى شاعرنا الحسيني، فالذي يخاف الموت موته، هو المنتصرفي منافحته للخصم لامحالة.
فسيف الدولة هنا واقف في جفن الموت، وهو مستعد له في أية لحظة، ولكن حينما يفتح الموت عينيه ويرى فريسة سهلة اقتحم عليه عرشه فسيفترسه لامحالة، بينما الحسيني بدا وهو الذي يتهيبه الموت ولايتهيبه! فلا يستطيع الموت الإقتراب منه، بل يشفق على الموت ويشجعه على عدم الخوف من موته.
فالشاعر الحسيني يبدو هنا في غاية البسالة والشجاعة أمام الموت، وهو بذلك مبتكر لعلاقة جدلية جديدة بين الإنسان والموت وهي الحالة التي يفر فيها الموت من موت الإنسان، بعد أن كان العكس، أي عندما كان الإنسان هو الذي يفر من الموت، ولذا، فالشاعر مستعد للموت في أية لحظة في سبيل غايات إنسانية سامية نبيلة. فيطلب من الموت أن يجهز له سهامه، وأن يتهيأ قطاره للرحيل، فلن يبالي!.
*
وفي قصيدته، “”، يقول:
(وفوق بطن تشالديران، عقد أبطال سوبارتو حلقة الرقص الأخيرة
وعلى حافات نظرات ميزويوتاميا، سأفرش جنوني وعشقي).
يبدي الشاعر – هنا وفي مواضيع أخرى من القصيدة – ثقافة كبيرة بالتاريخ والتراث الكرديين، ويستعين بهما في تطوير وصياغة شاعرية فذة، ويمد قصائده من خلالهما بنسغ من الحياة الكردية، واستعادة ذكريات عن بطولات الكرد وأمجادهم منذ غابر الأزمان وحتى اليوم، أي أن الشاعر هنا موغل في أعماق التاريخ الكردي، جاعلاً منه كائناً حياً ماثلاً للعيان، أمام أعين المتلقي وبشكل صياغة شعرية فنية جميلة ومحببة، يندمج معه القارىء والمتلقي بحماس كبير، تتميل في كلمات مثل:
(قاضي محمد. كي قوباد. سوبارتو. تشالديران. برزاني. بيران. بيازيد. سيبانى خلاتي….).
ثم يقول:
(لم يأت أسخيلوس لم يأت كافافيس. كانت تجف قصيدة مسرحياته، حيث كان أسخيلوس يدجن دروب التيه ويشوي لحم أرنب القدر).
وهنا يظهر الشاعر الحسيني ثقافة عالمية واسعة أيضاً، وخاصة في مجال التاريخ والتراث اليونانيين، وهو المطلوب أيضاً من الشاعر الناجح، ليسير بجدارة في طريق المجد والتفوق، وقد انتقل الشاعر من الخاص إلى العام من عبارة القصيدة التي جاءت مفردة، إلى عبارة المسرحيات التي جاءت بصيغة الجمع، مما خلق لدى المتلقي حالة من الحيوية والإستمرارية في الحالة الدرامية الأسخيلوسية تحديداً، أي كأن الشاعر يقول لنا: كلما كان أسخيلوس يحاول عن طريق مسرحية من مسرحياته، تدجين دروب المزالق والتيه الإنساني، وترشيدها بالصوى والإشارات، كلما كانت قصيدة مسرحيته تستهلك وتجف، وهي كناية عن المكابدة التي لقيها الرجل وهو ينير بمسرحياته للإنسانية دروب الفضيلة، والخير، والجمال. وكانت ثقافته اليونانية هذه تنجلي في كلمات عدة أبرزها:
(اسخيلوس. كافافيس. طروادة. أوديسيوس. هيرودوتس. ديوجينوس…).
قامشلو/2005/