أحمد حسيني ظاهرة شعرية أعادت للغة الكردية مجدها و اعتبارها و دورها

  
   لست في وارد ان اتناول كل ما كتبه هذا الشاعر الذي لا يشق له غبار شعرا في غزارته و لغته و مآلاته، خوفا و توجسا من عدم انصافه، كوني ما أبحرت في الشعر محترفا كما تمنيت بحكم مهنتي و مسيرتي الطبية، لكن هذه الكلمات التي يحاول ان يخطها يراعي رغما عن بساطتها بالتأكيد لن تشفي غليل قامة شعرية خلال المسيرة المعطاءة و المستمرة إلى يومنا هذا، بقدر ما تعيد إلى اذهان متذوقي الشعر الكردي قديمه و حديثه  قراءة هذه القامة شعرا و تقييمه انتهاء بنقده من قبل اصحاب الشأن في هذا المضمار، في سبيل إعادة ترميم مدرسة الشعر الكردي الحديث من جديد. كوني من عشاق اللغة الكردية و من القراء المولعين بالشعر المكتوب باللغة الكردية، فضلا عن معرفتي و المامي باللغة الكردية و امتلاكي قاعدة بيانات لا يستهان بها، حاولت ان اتذوق شعره من دون الاستعانة بالقواميس المتوفرة لشرح بعض الفقرات و النصوص التي يعجز عن فهمها القارئ العادي البعيد عن الكتابة و الاهتمام باللغة الكردية التي طالها النسيان و انكهتها قوانين الشوفينية المقيتة من تتريك و تعريب و تفريس. لكنني كنت اصطدم بين الفينة و الاخرى بصعوبات جمة و تعابير غامضة ليس بمقدور ايا كان استنباط افكارها الا من كان في اللغة خبيرا و في متاهات الشعر قاموسا منيرا.  
      طبعا هذا ليس تقليلا من القيمة الشعرية التي تذخر الاعمال الشعرية الحسينية بها، و لا تحاملا على قاموسه الغني بالمفردات بها هذا من ناحية،  من ناحية آخرى هناك الثراء اللغوي الفريد و الرموز الشعرية العميقة بالإضافة إلى الفضاء الشاعري في غاية التعقيد و الجمالية ان كان في مغزاها أو أهدافها. ترجع بدايات الحداثة في الشعر الكردي  إلى الشاعر عبدالله كوران باللهجة السورانية و قدري جان باللهجة الكورمانجية كما يؤرخ لها من قبل الاختصاصصين و الباحثين في حقل الأدب و النقد، فضلا عن محاولات بعض المتنورين قبلهما امثال عبد الرحيم رحمي هكاري و آخرون لست بصدد ذكرهم.،حيث يعتبران من رواد شعراء الحداثة لدى الكورد و من الذين ساهموا في مد جسور أدبية بين الكورد و المجتمعات الاخرى التي تجاورهم.
    طبعا لست مهتما بالنقد الأدبي و لا البحث في مجال الشعر  بقدر اهتمامي باللغة الكردية التي كتبت بها ملاحم شعرية منذ القدم و إلى يومنا هذا و تاسرني حصافتها. ما يميز احمد حسيني عن غيره من الشعراء كمتابع لمسيرته الشعرية و متصفح لديوانه الذي دأبت على قرائته مرارا و تكرارا، مستمتعا باللغة الكردية الأدبية الغنية و الشيقة التي ينقلنا الحسيني على متنها إلى عوالم احمدي خاني في فلسفته الشعرية و ملاي جزيري في شاعريته الموسيقية الغنية بالعشق حد الثمالة و هو يتنقل من عالم دنيوي إلى فردوس إلهي لاهثا وراء عشق بشري ممزوج برائحة كائنات تتراقص في جنة عرضها السموات و الارض.
         اذا بماذا يتميز الشعر الحسيني عن من سبقوه.
      السمة الأولى:  هي ايلائه اللغة الكردية اهتماما منقطع النظير كتابة و اتقانا و ابداعا في الوقت الذي كان معظم الكتاب و الشعراء يتنافسون على الكتابة بلغة الضاد تيمنا بالشاعر الكردي سليم بركات متحججين تارة بعدم كفاية التعابير و المفردات الكردية في إيصال الفكرة و أخرى بعدم وجود قراء على درجة مقبولة في تذوق الشعر باللغة الام، لذلك كان رائجا ثقافة التنصل من الكتابة باللغة الكردية لصالح الارتماء في أحضان العربية التي لعبت دورا رئيسيا في تعريب الثقافة و السلوك الكرديين رغما عن ارادة الكرد. 
   
   السمة الثانية:  هي إصراره الدؤوب على اعتبار اللغة الكردية حية و غنية و مليئة بمفردات و مصطلحات لغوية غير متوفرة حتى في كثير من اللغات الرسمية المعاصرة بخلاف ما كان يروج بأن اللغة الكردية لا تصلح للإبداع في الأدب و هي رويدا رويدا تفقد كل مقومات اللغة الحية و تندرج في عداد اللغات المهددة بالموت و ناطقيها بالانقراض.   
طبعا هذه الخطوة الحسينية أعادت للكردية رونقها و اعتبارها و دورها الذي نزع منها على مدى التاريخ. لذلك أضحت منطلقا للاعتداد بالذات الكردية و الاعتزاز بها كاية لغة شكلت بالنسبة لشعوبها العامل الابرز في تكوين الشخصية القومية المناضلة الواثقة من نفسها و الملتزمة.
       من يقرأ احمد الحسيني لا بد أ يلاحظ كم من جهود و سنين عمره بذله هذا المبدع في سبيل ان يخرج بلغة كانت قاب قوسين او أدنى من الموت المحتم، لغة جميلة و تحاكي لغات الشعوب المعاصرة في تركيبها و قواعدها و قاموسها و جمالها. طبعا قضية الكتابة بلغة كانت حتى الأمس القريب لغة قروية محكية متخلفة و لا تملك حتى الفبائها كانت نوع من المغامرة ان لم يكن انتحارا. ناهيك عن المحاولات الحثيثة الرامية إلى القضاء عليها عن طريق منعها و الكتابة بها من قبل مغتصبي الحجر و الشجر و البشر في كردستان، في إشارة إلى خطورة إحياء اللغة الكوردية من قبل أبنائها و إفساح المجال للكتابة بها عامل دغدغة للمشاعر القومية و استنهاض الهمم لشعب حرم طويلا من أبسط مقوماته و عناصره التي تشكل اللغة الكردية اهمها. في ظل هذا التنكر القومي من قبل الذات الكردية التي اكتوت بنار الدونية و عقد النقص علاوة على الإنكار الشوفيني من قبل من سلبوا الأرض و نهبوا  الميراث المادي و الروحي، فوق كل هذا يخرج من تحت الرماد الشاعر الحسيني كطائر الفينيق ليبث الأمل قائلا لمن هم للكرد بالمرصاد: لا و الف لا. اللغة الكردية خرجت من قمقمها إلى الفضاء الحر  و لابد أن نبدع بها و نكتب الروائع الأدبية بها اسوة باللغات الحية المجاورة . اذا الظاهرة الحسينية لا بد و ان تكون عملية العودة إلى الذات و متابعة المسيرة التي بدأها مؤسس الابجدية الكردية جلادت بدرخان و شاركه فيها معاصروه امثال جكرحوين اوصمان صبري رزو اوسي آرجان آري و موسى عنتر. الشعر الحسيني مصدر الهام للأجيال القادمة في اسلوبه و لغته و التزامه. انها بحق مدرسة شعرية تليق بأن تمثل الكردي في الفضاءات العالمية  جنبا إلى جانب المدارس الشعرية للشعوب الحية و المتطورة.
 
د محمد علي عبدي
المدير العام لمشفى القلب و العين…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق