“كاد هذا الحصار أن يخنقنا”!

ديالا علي

المواطن في سوريا يعاني أشكال الحصار كافة، و هنا لا أتحدث عن الأزمة الاقتصادية أو تدمير البنى التحتية فقط، بل تجاوز الأمر إلى الحصار النفسي و حرية التعبير و غيرها من الأمور التي تتعلق بالعيش السليم في هذا البلد .

أن تنام مرتاح البال في سوريا، فهذا أمر صعب، حيث ينتظرك تأمين مستلزمات الحياة التي يعمل الفرد طيلة شهر بمرتب لا يتجاوز الخمسين دولاراً لتأمينها، و هكذا تصبح في نهاية الشهر مديناً لمحلات السمانة، الخضرة و الألبسة. ينتظرك الوقوف على طوابير الغاز، المازوت، البنزين و الخبز . هنا في هذا البلد قدرُك أن تمضي حياتك كلها في الوقوف على الطوابير و دفع الرسوم و الفواتير دون إيجاد مقابل يفي بكل تلك المستحقات الضرورية للعيش، ناهيك عن الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي و دفع مبالغ طائلة لأصحاب المولدات و شراء ألواح لتوفير الطاقة، و غيرها الكثير من الأمور التي تتطلب جهداً و طاقة، تفوق طاقة الإنسان الذي أصبح في الآونة الأخيرة شبيهاً بالروبوت .

أمور كثيرة يتغاضى الفرد عنها في سوريا في سبيل النجاة من الموت لا أكثر،عدا عن كمية الضغط الهائل و الحصار المفروض عليه من قبل البلدان و الحكومات المجاورة و التي شكّلت عبئاً إضافياً عليه، كقضية التحكم بالمياه للحد من تدفقها إلى الأراضي السورية، حيث أثارت هذه الحالة خوفاً لدى الأهالي. إن هذه الأساليب الغير إنسانية من قبل الدول التي تسمي نفسها الشقيقة، و المنظوية تحت هيئة الأمم المتحدة  كادت أن تخنق أكثر من خمسة ملايين سوري من العطش، و جميعنا يعلم  أن المياه هي من ضرورات الحياة اليومية التي إذا فقدها الإنسان فقد  بعدها حياته و مقومات عيشه .

كما إن مسألة إغلاق المعابر الحدودية بين حين و آخر تسبّبت في خلق الغلاء الفاحش لأسعار المواد الغذائية و تسببت بالجوع المفرط و المتعمد إذا صحّ التعبير، و تقتل المواطن السوري بشكل بطيء، و تغلق في وجهه جميع نوافذ الأمل و الفرج إلى جانب أساليب و سياسات غير أخلاقية أخرى تمارس و تفرض على سكان سوريا دون رحمة أو شفقة، كأنهم بهذه السياسات يحاربون المواطن بلقمة عيشه و حياته التي لم يرَ منها في السنوات الأخيرة سوى الموت و الفقر و التعتير.

“حياة في غاية الصعوبة يعيشها السوري حتى كاد أن يفقد عقله” هذه الجملة سمعتها مراراً و تكراراً من أفواه الصغار قبل الكبار، الأغنياء قبل الفقراء، فهذه المحنة التي نعيشها الآن، لا يشعر بها أبناء الطبقة الفقيرة فقط، بل الأغنياء أيضاً يعانون منها و يجدون الفروق المادية و النفسية  و حتى العقلية جراء الوضع الراهن، كأن هذه الحرب جعلت من جميع طبقات المجتمع سواسية دون فروق.

يقول رجل مسن: ( لم أذق طعم اللحم أنا و أولادي منذ سنة أو أكثر، لا استطيع شراءه، أولادي نسيوا شكله و مذاقه)

و يقول آخر و هو موظف بمرتب خمسمئة ألف: ( شهادتي الجامعية لم تعد لها أية قيمة أو معنى، درست كل هذه السنوات لأحصل في آخر الشهر على هذا المبلغ الضئيل الذي لا يكفي لمصروفي الشخصي، ناهيك عن مستلزمات عائلتي و الأمور الأخرى و خصوصاً عند ارتفاع الدولار ففي سوريا وحدها ستسمع بجملة الدولار ارتفع، الدولار نزل ) حيث أن السكان هنا في حالة ترقب دائم لوضع هذه العملة الأجنبية…… حتى “نكاشات الأسنان” باتت قيمتها متعلقة بقيمة الدولار .

 مع ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي بين الدقيقة و الأخرى تختلف معها أسعار المواد الغذائية كونها الأكثر استهلاكاً و شراءاً حيث تجد غالبية الشعب في حالة من الحيرة و الصدمة من أمرهم.

يقول أحدهم : ( بين ليلة و ضحاها أجد فرق ألف ليرة سورية، و أكثر في بعض الأحيان عند شرائي للبيض كوني أحب هذه الوجبة على الفطور تجدني استهلكها بكثرة و لكن على ما يبدو سأتخلى عنها هي أيضاً، مثلها مثل باقي الأصناف الأخرى من الطعام و التي فاقت قدرتي على شرائها )

لا يكاد أن يخرج المواطن السوري من أزمة حتى تلاحقه أخرى، كأنه كُتب عليه ألا يعيش ولو ليوم واحد دون التفكير و القلق بواقعه السوداوي الذي يعيشه.

ما خلفته الحرب الدائرة في سوريا أثر سلباً على مناحي الحياة كافة، الدمار و الصراع الدائر ليس إلا جزءاً صغيراً من المحنة الراهنة التي تجاوزت جميع المفاهيم و القيم الأخلاقية المتعلقة بالإنسانية.

حالة في غاية الفوضى و التشتت يعيشها السوريون، و تتجلى تلك الحالة بالحرب و الأزمة الاقتصادية التي خلّفت وراءها أزمات أخرى، مثل الفساد المنتشر في غالبية المؤسسات الخدمية و الغير خدمية على مرأى من السلطات الراهنة دون إيجاد حلول جدية للحد منها، و إعطاء كل ذي حق حقه، ناهيك عن الخوف من التعبير بحرية عن آرائهم حيال المحنة الآنية تحسباً من الاعتقال، بتهم سياسة أو أمنية، الاغتيال، الخطف و القتل المتعمد لأسباب مختلقة و دوافع شخصية بحتة. الجدير بالذكر إن عمل المؤسسات التموينية و الخدمية في جميع بقاع سوريا، و التي تشرف على الواقع المعيشي لم تعد كافية أو بمعنى أدق لم تعد تقوم بمهامها و أصبحت عبئاً إضافياً على المواطن دون تقديم شئ يذكر.

“هذا الحصار خنقنا! جعلنا عاجزين، منهكين طالبين الموت آلاف المرات فضلاً عن هذا الواقع الذي نتعايش معه دون إرادتنا، كأنه كابوس يرفض التخلي عنّا حتى يرى حتفنا أمام عينيه”.

و أنا أكتب هذا المقال خرجت والدتي من المنزل بحثاً عن جرة غاز واقفة على دورها في أحد الطوابير المركونة في الحي، لم تعد إلا بعد خمس ساعات من وقت خروجها دون أن تحصل على الجرة “لأنو خلص الغاز” مع العلم أن هذه المادة كانت مفقودة منذ شهور، و المواطنون كانوا يستخدمون أدوات بديلة عنه “كالببور” و طهي الطعام على الحطب و “التنور”.

هذا هو واقع الحال في سوريا، و الشيء الذي ذكرناه ليس إلا غيض من فيض من الصور اليومية التي يعيشها السكان في سنوات عمره و صحته الجسدية و النفسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق