نجمة في سماء قلب قاحل

أفبن يوسف

ولجت مزكين الغرفة الوحيدة في المنزل والدموع تحرق خدها القشب، على عجل خلعت عنها بدلة المدرسة واتجهت نحو صنبور الماء في الحوش المقفر، غسلت وجهها وهي تشهق مرغمة، ثم عادت لتجفف وجهها كي لا تلاحظ أمها الغارقة في حياكة قبعات الصوف بجانب حوض الزرع حزنها، فهي تعلم أن والدتها تحمل من الأعباء ما يثقل كاهلها ويزيد، ابتلعت شهقتها واقتربت من أمها تسألها عن طبخة اليوم، فأجابتها بتنهيدةٍ تشق صدرها “لقد طبخت لكم مفركة البطاطا”.

إنها الأكلة الأقل تكلفةً بالنسبة للعائلة، فالأم تجهد في صناعة القبعات والجوارب الصوفية لتبيعها وتساعد زوجها في مصروف البيت. عصراً التف الصغار مع والديهم حول المائدة الفارغة إلا من صينية البطاطا، التهموها بشراهةٍ كما لو أنهم يتعرفون إلى طعم البطاطا لأول مرة. وحين انتهوا من تناول الطعام، خلد الأب إلى النوم ليرتاح من عناء العمل في الحفريات، وخرج الصبيان ليلعبوا بالدحاحل في الحي مع أصدقائهم، بينما اجتمعت الفتيات لتلعبن بالدمى التي صنعتها لهن والدتهن من بعض العيدان الخشبية التي تثبتها على شكل صليب ثم تضع أعلى العود غطاء زجاجة الكازوز وتلفها بقطع القماش البالي ليكون رأس الدمية، ثم تقطب الرأس بغرزاتٍ من الخيطان الصوفية الملونة لتصبح للدمية عيوناً وأنفاً وفم. جلست مزكين تتأمل أخواتها بصمت، مبتلعةً نشيجها الذي لا يهدأ، وهي تتذكر كلام الآنسة دلال وهي توبخها وتطلب منها إحضار أوراقٍ تثبت جنسيتها، وتهددها بطردها من المدرسة.

مساءً في الحوش المفروش بالحصيرة المهترئة، جلست العائلة تتابع مسلسل السهرة بانتباه، بينما استلقت مزكين بعيداً عنهم، وراحت تتأمل السماء الصافية المرصعة بالنجوم، وفي دهشة منها تراقصت أمامها نجوم سبعة كانت تصطف بجانب بعضها لتتشبه بإحدى أواني المطبخ، حاولت مزكين ألا ترمش أبداً حتى لا يغيب عن ناظرها ذلك المشهد، تمعَّنت في النظر إلى النجوم السبعة حتى شعرت بأنها تبتسم لها، غاصت بمخيلتها، لوّحت لهنَّ بيدها وقالت في سرها: “مرحباً، هل تسمعنني؟ أنا مزكين، وعمري خمسة عشر عاماً”، تلألأت النجوم مجدداً وكأنها تشير لها بالموافقة.

راحت مزكين تسترسل في الحديث سراً مع النجوم، تحكي لهن عن حالها، عن أحزانها وأفراحها، صارت تسرّ لهن بكل ما يحدث معها، حتى أصبحن بالنسبة لها أعز الصديقات وبيت أسرارها.

كانت السنوات تمر سريعاً بينما مزكين تكبر وهي تروي لصديقاتها النجوم قصصها وحكاياتها. روت لهن عن مدرستها التي حرمت منها لاحقاً، عن زميلاتها اللاتي لم تصبح إحداهن صديقتها، عن شبانٍ كانوا يصادقون أخوتها ويتوددون لها سراً، حكت لهن عن قصة حبها الأول، ذلك الشاب الذي لم يحبها يوماً، كانت مزكين حين تبكي، تعتم السماء ويختفي ألق النجوم، وحينما تضحك كانت السماء تشع بالنور وتتلألئ النجوم كالجواهر في جيد الليل.

يوماً ما تقرر تزويج مزكين لشاب يكبرها سناً، وليس لها معرفة مسبقة به. راحت تشكو للنجوم ألمها وحزنها وقلقها وهي على علم أن صديقاتها لا تستطعن إنقاذها. بعد شهور وفي يوم زفافها، في ساحة القرية الواسعة حيث جلست بالقرب من عريسها وسط الأقارب والخلان، وبينما كان القرويون يرقصون ويحتفلون بعرسها، رفعت بصرها للسماء وسرحت بمخيلتها لتحدِّث نجومها قائلة: “اليوم هو يوم زفافي، من الجيد أنكن هنا، لا أعلم ما سأواجه بعد اليوم، فقط يتملكني شعور بالخوف، الوحشة، الغربة، من الآن فصاعداً علي أن أكتشف كل شيءٍ لوحدي، فلا أحد سيكون بجانبي سواكن، وأنتن النور الوحيد الذي يشرق في أيامي المعتمة، أنا خائفة يا نجومي، خائفة جداً”.

مرت عدة سنواتٍ وأصبحت مزكين أماً، صارت تنشغل عن نجومها كثيراً، فالحياة تزدحم بالمشاغل أحياناً، جهدت كثيراً لتكون أماً وزوجةً صالحة، لكنها دائماً ما كانت تفتقد في نفسها الحب، وحين تضيق بها الحياة، تخرج لتبحث عن نجومها في السماء القانية، تحدثهم قائلةً: “أفتقدكن يا نجومي، لقد كبرت كثيراً منذ آخر لقاء بيننا أليس كذلك؟ لم أعد تلك الفتاة اليافعة التي تعرفنها، شغلتني الحياة عنكن، لكنني لم أنساكن يوماً، كنت أسترق النظر إليكن كلما سنحت لي الفرصة، أردت أن أتأكد من أنكن ما تزلن معاً، ترسمن للناس دروبهم، يستنيرون ويستدلون على الطريق بكن، كم أنتن وفيات!! ما زلتن تقفن صفاً واحداً كما السابق، ألا تشعرن بالتعب وأنتن تتخذن نفس الوقفة طوال الوقت؟”.

في إحدى الأيام، طرق احدهم بابها بقوة واستعجال، فتحت الباب ليعلمها جارهم بأن زوجها تعرض لحادث وأنه في المشفى بحالةٍ حرجة، فهرعت ملهوفة حافية القدمين تجري كالمجنونة إلى المستشفى،  وهناك رأت زوجها طريح الفراش ممدداً لا حول له ولا قوة، مغمض العينين تغطي معظم جسمه الضمادات الطبية، اقتربت وجلست بالقرب منه، أمسكت بيده وقبلتها، ودون أن يفتح عينيه قال لها: “لا تبكي، فدموعك غالية يا أم اطفالي” ثم رفع يده الجريحة نحو خدها ومسح دموعها بحنان، وابتسم ليطمئنها بأنه بخير.

اعتنت مزكين بزوجها حتى تماثل للشفاء، كانت كل يومٍ وهي تغير الضمادات له تشعر بوخزةٍ تخترق قلبها،

صباح إحدى الأيام، جلست مزكين وحيدةً بالقرب من النافذة المطلة على الشارع. رفعت بصرها للسماء بفرحٍ، تأملتها والدموع تملأ عينيها لشدة وهج الشمس، نظرت إلى الاتجاه الذي تظهر فيه نجومها السبعة ليلاً، وراحت تحكي لهن آخر قصصها: “طوال سنوات عمري، تعبت كثيراً من اتخاذي نفس الدور، تعبت من كوني امرأة، تعبت من نفسي، لكنني اليوم سأخبركنَّ شيئاً؛ لقد وجدت السعادة أخيراً، أنا سعيدةٌ لدرجة أنني أشعر بأن كل الأشياء حولي جميلة، وأنتن؛ أنتنَّ أجمل ما في حياتي، لم أستطع الانتظار حتى المساء لأحكي لكنّ، اليوم سأعترف لكنّ بسرِّ سعادتي، فأنا أخيراً… وجدت ما كنت أبحث عنه طوال سنين، أخيراً… وجدت الحب”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق