مقبرة الذكريات..كوثر جعفر

قصة قصيرة
تجيب على اتصال من زوجها :
_نصف ساعة كوني جاهزة، سأحضر لأصطحبكم كونوا مستعدين.
الإتصال صعقها، بلا روح، و بدمعة متدحرجة على وجهها البارد شردت لبرهة، لكنها سرعان ما لملمت نفسها، وبسرعة نادت الأولاد : إلبسوا بسرعة.
وسارعت لجمع أغراضها في سباق مع تلك الثلاثين دقيقة.
سألت نفسها ماذا آخذ معي؟..لو استطيع لأخذت جدران المنزل وهواء عفرين.
كل شيء في بيتها له ذكريات، جمعت بعض الملابس، وتركت أكثرها بقلب مفطور، صوت بكائها يعلو كلما تخلت عن شيء، وتركته مكرهة.
سارعت لألبوم الصور الخاص بكل لحظات حياتها وبعض الأقراص المدمجة التي حفظت أحداث حياتها الهامة .
أخذت مصاغها القليل جداً، ابنها الصغير توسل إليها باكياً أن يأخذ لعبته معه، فأنصاعت لإلحاحه.
شهيقها المخنوق وبكائها كانا في إزدياد إلى أن تحول لنحيب.
وهي تمرر يدها بحنو على أثاث منزلها الذي إشترته وزوجها بعد عناء ، راحت تلمس الجدران ، الأكواب، الصحون، الملاعق، صورة جد الأولاد المعلقة .
حاولت أن تجمع ماتستطيع حمله وهي تخرج كل أحداث حياتها من ارشيف ذاكرتها المشوش وهي تخاطب نفسها : إلى أين نهرب ؟ لمن نترك عفرين ؟ لن أرحل سأموت هنا في بيتي ، سأموت في عفرين.
يقاطعها طرق زوجها على الباب :
-هيا روجدا ! علينا المغادرةبسرعة إنهم قادمون
_لن أرحل
_هيا عزيزتي نحن نبعد الخطر عن أولادنا!
نظرت إليه باكية تتوسله البقاء، للملم جرحه الذي ينزف داخله قائلاً :
-عزيزتي.. لن نستطيع أخذ كل هذه الأشياء معنا ، أعلم أنها غالية عليك ولكن يجب أن نستعيض عنها ببعض البطانيات وبعض الطعام للأولاد، الازدحام خانق وقد نبقى عالقين لأيام.
بسرعة راح يفرغ الأكياس من محتواها واستعاض عنها بالبطانيات وملابس الأولاد و روجدا تتفرج متعبة بعد ما أنهكها البكاء متحولاً إلى أنين.
خاطبها : عزيزتي أنا مضطر لإحراق الصور والأقراص المدمجة لن أتركها للأوغاد يمثلون بها.
_ أرجوك لاتفعل! هي كل ماتبقى لنا من ذكريات،سعادة ، كل ماتبقى لنا من عفرين، أرجوك أنا سأحملها تحت ملابسي أنا سأحميها، أرجوك لاتفعلها
_ حسنا عزيزتي هيا بنا .
نظروا لبيتهم نظرة أخيره وفي الطريق بذلوا قصارى جهدهم لتعليق أكبر عدد ممكن من صور عفرين على جدران ذاكرتهم،
بقيت السيارة تراوح في مكانها لساعات وساعات، بعد يوم وليلة وصلوا أول طريق الصعود لجبل الأحلام، أول طريق الشتات، صعدوا وصعدوا، وهي تحمل صغيرها والأب يحمل الكيس الكبير على ظهره، و يحفز أولاده المتعبين على متابعة المسير .
أرهق روجدا حملها الذي بات ثقيلاًفي الصعود والبرد والتعب، لكنها كانت تكابر.
جلسوا للراحة، أقترب الزوج منها محدثا إياها بإنكسار :
_ أرى ياروجدا أن حملك بات ثقيلاً، خففي حملك عزيزتي، أنت تحملين طفلنا أيضا، إنظري إلى ذاك العجوز يحمل جثة إبنه معه، هو إبنه، فلذة كبده، ولكنه لن يستطيع الإحتفاظ بها أكثر إلى متى سيقاوم؟ سيضطر في مكان ما بعد أمتار قليلة لدفنه.
بقيت متشبثة بحملها لا بل ألصقته بها أكثر تعبيراً منها على الرفض، تابعوا رحلتهم المضنية، إلى أن نادى العجوز باكياً: أرجوكم ساعدوني لأدفن ابني .. فقد بدأت أفقد رائحته، أرجوكم ساعدوني،أو على الأقل اقرأوا له الفاتحة، إستجاب الكثير للنداء والبعض آثروا متابعة رحلتهم، سارع زوج روجدا لمساعدته، وروجدا تراقب باكية .
ما إن بدأوا يهيلون التراب على القبر، أخذت روجدا تبكي بكاءاً هستيريا وشرعت تحفر الارض بكلتا يديها مما لفت نظر الجميع.
راحت تحفر وتحفر ثم دفنت فيه ألبوم الصور والأقراص المدمجة وردمت عليها التراب وصوت نحيبها يعلو .
إنهار الرجل العجوز وكل من كان موجوداً راح يحفر قبراً لذكرياته هناك.
التي حفرت قبراً لثوب عرسها والذي حفر قبراً لرسائل حبه التي تحوي وعوداً كثيرة كثيرة، وهناك من دفن كتبه المفضلة ومن دفن أحلامه.
سارع الزوج لإحتضان زوجته وهمس لها قائلاً: لاتقلقي عزيزتي فمفتاح بيتنا معنا .
إبتسمت له إبتسامة حزينة ودست صورة لها ولعائلتها في حقل الزيتون العائد لهم، دست الصورة تحت ملابسها وتوقفت هي وعائلتها وألتقطوا صورتهم الأخيرة لعفرين وعلقوها كأهم صورة في معرض ذاكرتهم، نظروا إليها نظرتهم الاخيرة، وببسمة أمل حزينة تابعوا طريقهم .