الروائي المصري وحيد الطويلة : أنا أقرب للمُغنّين

حوار : عارف حمزة – ألمانيا
نعيش في دولة سلفية تستطيل لحيتها وسط شعب غوايته الدين بالأساس، وتوتارليتية عسكرية بامتياز.
يتطرّق القاص والروائي المصري وحيد الطويلة لأسماء وتيّارات وقضايا كثيرة في هذا الحوار الذي جرى خلال عدّة أيام زار فيها مدينة إيسين الألمانيّة بدعوة من إحدى جامعاتها..
حديث شيّق عن مسقط رأسه؛ تلك القرية المحرومة من كلّ الخدمات الضروريّة؛ والتي تشبه “المهبط الأول للخليقة” على حد تعبيره.
حديث عن التفاؤل بالتغيير وخيبات الأمل التي تجرّعها الشارع المصري، والمثقف المصري، بعد “الثورة المصريّة”.
حديث عن إبراهيم أصلان وعزت القمحاوي والأبنودي وعفيفي مطر وعبد المنعم رمضان و”قعدة الجمعة” التي صارت مشهورة على مستوى العالم العربي.
حديث عن الديمقراطية والحريّات وعن الفاشية التي تمّ استبدالها بفاشيّة أخرى…. والكثير والشيّق للرجل الذي يظنه الناس مغنيّاً وليس كاتباً.
روايتاك الأخيرتان تدوران خارج المكان المصري؛ حيث “باب الليل” تجري أحداثها في تونس، بينما “حذاء فيلليني” تدور في سوريّة. لماذا هذا الخروج من البيئة المصريّة التي تعتبر غنيّة جداً؟
من قال إنني خرجت؟! الأقرب إلى الحقيقة أنني وجدت فرصة للعب في فريق “أجنبي”. هي أشبه بفرصة احتراف للاعب كرة قدم، يعود بعدها ليدافع عن ألوان بلاده في المباريات الرسمية.
في “باب الليل” ثمة همّ نتقاسمه جميعاً، نحن الذين نتوجّع بلغة يقولون إنها واحدة، ونتقاسم نفس الكوابيس، نحن الذين كنا نقول للأسف الجيش العربي السوري والجمهورية العربية المتحدة، نحن الذين تربينا على الوحدة التي لا يغلبها غلاب وأغانيها ومفرداتها. حين خلعت أمي وجدتي وخالتي أقراطهن وأساورهن لأجل فلسطين ولأجل سورية لم يكن فعلاً محلياً، أو قل إنه كان محلياً باعتبار أننا مكان واحد.
ركضنا وراء سرد ماركيز يوماً ما ومازلنا، لكن الأهم أن أحلام وأشواق وكوابيس إمرأة تعيش في موكوندو تتقاطع، بل تتماهى، مع أحلام وأشواق خالتي نفيسة في قريتي الغارقة في عتمة بوابة الآخرة.
في تونس، يعتبر البعض “الأجنبي” كل من ليس تونسياً. في إحدى الندوات قدمت نفسي على أنني “كاتب أجنبي من مصر”.
في حذاء فيليني الأمر واضح، يقول البطل حين سُئل: هل أنت سوري؟ قال: سوريا مثل مصر مثل تونس، كلها واحدة وكلها موبوءة.
نعم هناك تعذيب ممنهج في العالم العربي منذ استوردنا الانقلابات العسكرية “أصبحنا نصدّرها فيما بعد وحتى اليوم”. مصر الستينات برغم ما فيها من أشياء عظيمة لكن ملامح التعذيب إحدى الآثار “العظيمة” الباقية منها أيضاً. لكن الفقرة الأعلى شراسة وخسّة كانت في سوريا – رغم تجبّر نظامَي صدام والقذافي- لن أنسى ما حييت الرعب الذي كان يتلبّس الأصدقاء السوريين ونحن نسخر من النظام السوري في قلب القاهرة.
يا سيدي التعذيب والخوف قضية محلية، نحن نثور الآن – إن أفلتنا من خناق السلطة- لتعذيب مواطن في الأرجنتين.
أظن أن في الأمر خداعاً مقصوداً، هنالك إشارات طفيفة عن سوريا، لكن جملاً كثيرة في الرواية كانت لأحد ملوك التعذيب في مصر وهو “زكي بدر”، وجملاً للقذافي، وفضاء قاتماً بلون واحد وشعارواحد، نحن للأسف أمة الواحد منذ خلقنا.
“أرض مصر طرّاحة لا تنضب”
ألا تخشى أن يُقال عنك إنّك “كاتب غير محليّ”، خاصّة إذا عرفنا أنّ المحليّة تُعبّد طريقاً جيّدة نحو العالميّة؟
لا بأس، أن يكون لك قراء في العالم العربي أو عرب في بلاد بعيدة.
كم (واحد) من القراء الذين سوف يقرؤون هذا الحوار يعرف “سعد مكاوي”؟، أظن أن كاتباً مثل خيري شلبي مقروء في مصر بشراهة تتجاوز حضوره خارجها والعكس صحيح لإدوارد الخراط مثلاً.
إنها تهمة جميلة على الأرجح، لكنني أزعم أيضاً أنني مقروء على نطاق واسع في مصر.
كتبت روايتين من قعر دست المجتمع المصري، من العيار الثقيل، أو قل المدفعية الثقيلة كما يقول الروائي هاني عبد المريد: “أحمر خفيف” و”ألعاب الهوى”. انظر، كم هو عنوان بديع. لا تنس أن أحد الكتاب كان يلقبني بزعيم كتاب الريف، في الوقت الذي كان الريف المصري قد تم استنزافه كتابة وشهرة ممن سبقونا. وكتبت قصصاً قصيرة بنَفَس إنساني وروح مصرية أو هكذا أظن.
سأتجاوز أنني رجل مهذّب وأتحدث ببعض النرجسية بل بالكثير منها، وأزعم أنني في “ألعاب الهوى” و”أحمر خفيف” لعبتُ على تدوين الشفاهي، دون أن تنتقص من روحها التي تنفخ في السياق الكتابي وفي المعنى روحاً جديدة. وكتبت ريفاً جديداً لا يعرفه أحد، كما كتبت ميرال الطحاوي. بالمناسبة ميرال كتبت بروكلين، وهي التي كتبت الخباء والباذنجانة الزرقاء عن مضارب البدو وكوابيسهم. عزت القمحاوي كتب “البحر خلف الستائر” عن تجربة في قطر وهو صاحب “بيت الديب” التي تصرخ بالأجيال في قرى مصر.
بحث عني “الأبنودي” بعد ألعاب الهوى- وهو لا يبحث عن أحد- بحث عني بما لم يبح به لي مباشرة، سألني عن القاموس الذي استخدمته في الرواية، وهو الذي قبض على قاموس الصعيد كله، وكتب في مقالته: طالما هناك من يكتب هذا فإن أرض مصر طراحة لا تنضب.
كان عفيفي مطر يتساءل بعد “أحمر خفيف”، وهو الذي عاش في مضاربنا طويلاً: من أين أتى وحيد بهذا؟ كان يسألني ليكتشف أن نصف المواويل والغناء في الرواية يعرفه هو وردده مراراً من قبل، ويشهق لأن النصف الآخر من قريحتي.
على أية حال لا تقلق، فالمماليك جاهزون ليس لإخراجنا من المحلية والعالمية، بل لإخراجنا من اللعبة كلها، والخدنة لا ينتظرون.
حين قرأ الشاعر “مهدي مصطفى” النسخة الأولى من “ألعاب الهوى” قال: هذه أول رواية مصرية بحق. قال وقتها إنه كتب مقالاً، لم ير النور، بعنوان: ماركيز ليس في كولومبيا. أنت تسألني عن المحلية وهناك من يستكثرون علينا أن نكتب بشكل جيد ما بالك إن كان جديداً!.
هل تعلم أن شاعراً يموت من الجوع في القاهرة، لو وجد وظيفة في الخليج ليأكل بدل أن يتسول من متسولين، يُخرجونه بعد أن يسافر من قائمة الشعراء وإلى الأبد!!.
الحرائق جاهزة يا صديقي ، نفس المجازر، نفس السقوط كما يقول جمال القصاص. لكن الجميل في الأمر أنك تجد تساؤلات عديدة على صفحات التواصل الاجتماعي: ما هي جنسية هذا الكاتب؟ كنت أظنه تونسياً لكن ظهر أنه مصري، كنت أظنه سورياً لكنه مصري.
لم نعد نكتب عما نعرفه، بل يجب أن نكتب عما لا نعرفه.
أحد المماليك سأل عبد المنعم رمضان بعد فورة باب الليل: رواية جميلة ولكن أين تونس، لا شبابيك زرقاء ولا مبان بيضاء؟ قال له (رمضان) تونس في اللغة يا مولانا.
قرأتُ في إحدى الدراسات عن أعمالك الأولى إن أجواء إبراهيم أصلان تمتد داخل كتاباتك. هل أنت متأثر به؟ مَن هم الكتاب الذين تأثرت بهم؟
لا أظن ذلك على الإطلاق. ابراهيم كاتب كبير بلغة مقتصدة تكاد تكون بخيلة، وحكايات من مكان واحد تقريباً. العالم عنده هو فضاء “فضل الله عثمان”. يكتب ببساطة خادعة، دافئة أيضاً. يحكي حكاية وهو يقصد على الأغلب حكاية أخرى. كل ذلك صنع منه “شيخ طريقة”، وكما “الشيخ حسني” في فيلم “الكيت كات” الذي صنعاه داوود عبد السيد ومحمود عبد العزيز صنع أسطورة ساهمت في الشكل الذي كان فيه أصلان يحبه ويكرسه لنفسه. هو من عالم وأنا من عالم آخر. ربما نتشارك في السخرية، كلّ على طريقته. ربما نتشارك في الجملة القصيرة، هو كتبها في الأساس بحكم وظيفته، لا أستطيع أن أقول إنها ليست خياره، لكنني أستطيع أن أقول إنها خياري.
أنا لست ابن الحكايات فقط، أنا ابن الحكايات المعجونة بالفقد والخوف الدائم والغناء بالشوق والحنين، حيث ولدت في منطقة تكاد تشبه مهبط الخليقة الأولى، بلا كهرباء ولا ماء ولا طرق. أنا ابن الجمل القصيرة خوفاً من الأب والعمدة والسلطة. أنا ابن الجمل القصيرة التي تقال لقاتل كي يقتل بعد ساعة، المسألة لا تحتاج للاستفاضة. أنا أبن هذه الشعرية القاتلة، من هنا لديّ حكايات تكفي بقية العمر، لكنني ابن الشعراء أساساً. وإن كان لابد من أحد فأنا أنظر بعين واسعة إلى جون كويتزي وإلى ريتسوس.
مطربنا الوحيد في المنطقة كان يحكي الحكاية شعراً وغناءً. أنا ابن طريقة القارئ مصطفى إسماعيل في الكتابة؛ كيف يقول الآية، التقطيع، المقام الذي تقرأ به الجملة، حالتها نذير وعيد أم بشرى. الموسيقى الخفية التي كان إدوار الخراط يحلم بها، القفلات، نهايات الجمل والفصول. رياض السنباطي سأل عبد الوهاب من أين أتى بهذه القفلة قال له: من الشيخ مصطفى. كذلك جملة زياد رحباني وجرأته، وكل هذه السخرية حتى من نفسه. من هنا أنا ابن الشعر القاتل، ابن الاختزال والحذف من الجملة ومن الدنيا.
وأخيراً: ثمة مسافة مرعبة كان يصنعها أصلان نفسه؛ تلك المسافة التي تستطيع أن تمر قبالتها ولا يمكن لك أن تدخلها. هذه المسافة هي التي صنعت له صداقة مع واحد من أكبر الهجائيين العرب، وهو عبد الوهاب البياتي، كانا يعرفان أظافر بعضهما لذا تصادقا. وهو ما لا أستطيعه.
تأميم ناعم
خيبة أمل كبيرة أصيب بها كتّاب مصريّون بعد الثورة على مبارك واستلام مرسي وانقلاب السيسي، ماذا حدث لك أنت؟
كنت شاهداً ومشاركا في اللحظة التي خرج فيها أول دكتاتور عربي من تونس. بعدها عدت لمصر قبل خروج مبارك. لم تكن هناك لحظة مؤاتية في تاريخنا صنعها الناس، لصنع دولة مدنية أكثر من هذه اللحظة، لكن الإسلام السياسي قبض على اللحظة، من هنا نزل الناس ضد فاشية دينية، نزلوا مع السيسي في لحظة عاطفية وعقلية أيضاً، إلا أن الحقيقة ظهرت مع الأيام وهي أننا استبدلنا خوفاً بخوف، وفاشية وقفنا ضدها بأخرى بموافقة شعبية، لدولة أمنية بموافقة شعبية، وإن كنت أعتقد أن اللحظة بدأت تتغير.
دعنا نقول إنني ضد الإسلام السياسي على الإطلاق، وحتى اللحظة التي طلب فيها السيسي تفويضاً لمحاربة الإرهاب كنت معه، لكننا بعد أيام سمعنا كلاماً واضحاً مغايراً، وعدنا في غضون سنة لنفس تعاليم وزارة الإرشاد القومي. لم يعد في مصر إعلام خاص. أصبح المطلوب أن نمشي في طريق باتجاه واحد، ومن يعترض يخرج من المشهد. ودعني أقول لك بوضوح: الجماعة التي تحكم عرفت أنها لم تُقص الاخوان وحدها؛ ومن أقصاها الإعلام والمتظاهرون من الشباب تحديداً، وعليه تم تأميم الإعلام وتدجينه وإقصاء كل من تسول له نفسه التفوه أو الخروج بدعوى حماية الوطن، هو التأميم الناعم بلغة هذه الأيام.
تسمع الآن نغمة خسيسة: في البداية نحن في حرب ضد الإرهاب، والآن نحن مع الدولة حتى لا نصبح سوريا أو العراق. المشهد الآن أننا نعيش في دولة سلفية تستطيل لحيتها وسط شعب غوايته الدين بالأساس، وتوتارليتية عسكرية بامتياز. الآن عادت الأجهزة السيادية للازدهار، عاد الفتك الأمني.
نعم خيبة أمل كبيرة، وقلت في حوار على الهواء موجهاً الخطاب للسيسي بالعامية التي يفهمها حتى لا يتهم المثقفين بالتنظير: “حبيبك اللي يحوشك، مش بس اللي يحوش عنك”. لكنهم لا يسمعون ولن يسمعوا. هم قرروا ولن يعودوا، وسيتم اغتيال الحرية لزمن طويل تحت لافتات الأمن والاستقرار والدولة والعدو.
الكاتب وحيد الطويلة مع الزميل عارف حمزة
لهجتك ليست مصريّة خالصة؛ هناك النبرة المغاربيّة وكذلك الشاميّة، هل يسبب لك ذلك مشاكل في بلدك مصر، خاصّة إذا عرفنا أن اللهجة المصريّة تنزل عند الكثيرين هناك منزلة اللغة؟.
العشق يا سيدي. أغرمت بنساء من المشرق والمغرب. حين تحب إمرأة لابد أن تغني لها ما تحب. عندما كنا نغالب خشيتنا ونسأل “عفيفي مطر” عن سبب استعماله للغريب وللمهجور من الألفاظ، كان يردّ بقوة: لو لم استعملها لمات جزء من الكون.
ولدت في النقطة العميقة من شمال مصر، كانت إذاعة لندن وسترايك، في لبنان، ومونت كارلو ودمشق، وحتى إسرائيل، واصلة بقوة، مع أن المناخ في قريتنا كان آخره السيرة الهلالية ومدافع أم كلثوم وعبد الوهاب والأطرش. كنت مشدوداً ومشدوهاً لأصوات وأسماء غريبة على أسماعنا، نصف القرية عندنا أسمهم عبد الصمد، وأنا أسمع محمـد الأزرق وموسى بشوتي وشادية الكرمل.
فتنني الغناء اللبناني وتجربة الرحابنة. لم أستطع أن أشيع هذا المناخ وسط قوم يسمعون السيرة الهلالية، وظللت لسنوات أحاول أن أعرف معنى كلمة شلحوني حين تغنيها فيروز”مشلوحه على بحر النسيان”. كنت مشدوداً خلف كتابة الرحابنة وميشيل طراد وطلال حيدر وحتى جوزيف حرب رغم مساندته العمياء للنظام السوري. راحت أذني خلف الملحون والأندلسي والدوكالي ونعيمة سميح وصليحة وغيرهم.
سبب لي ذك بعض المنغصات؛ حكيت في حلقة تليفزيونية عن زياد الرحباني، وأن المصريين تحديداً لم يسمعوا فيروز لسبب يتيم أنها لم تغنِّ باللهجة المصرية. وقامت القيامة وتناثرت في الأجواء عبارات من عينة أننا نهضم كل من يأتي عندنا ونُمصّره.
هل عندنا شيفونية؟ نعم. لكنني من تجوالي في العام العربي وجدت أنها حالة عامة، بل تتعداها إلى العنصرية أحياناً.
أصحو في الصباح أو بعد قيلولة لأسمع “سهرة حب”، وأجدني في ذلك وحيداً. هل لي من اسمي نصيب؟ ربما. ولكنني مستمتع وأشعر أنني أخذت النصيب الأكبر.
تبقى طرفة: كنا في “سوسة” في إحدى الندوات وجلسنا جماعة، كل واحد من بلد عربي وأنا أحكي. ثم قمتُ، وعند عودتي وجدت الطاولة كلها تقهقه؛ السيدة التي كانت تجلس خلفنا سألتهم في غيابي: بالله عليكم. هذا المغني ما هي جنسيته؟
ما زال ماضيك غامضاً؛ حتى في تقديمك في أعمالك وفي الدراسات عنك نجدك متخفياً. مَن هو وحيد الطويلة في نشأته الأولى؟
ومن يهرب من ماضيه؟! نحن في عالمنا العربي المحكوم بالعشيرة السياسية والدينية ليس على طاولتنا سوى الماضي يا سيدي. حاولت أن أستعيد روح الماضي في “ألعاب الهوى”، وأن أقبض على اللحظة في “أحمر خفيف”، وأن أكتب مآل الثورة الفلسطينية في تلك اللحظة التي كنت أراها على وجوه أبطالي بأحلامها المنكسرة وكوابيسها المتعددة.
أنا ابن فقراء. لم نتعلم، وليست عندنا نماذج ولا فرص. الفرص صنعناها نحن حين أتينا إلى القاهرة. تعبت كثيراً في حياتي، ورغم ذلك لم تغب الابتسامة عن وجهي، ولا تخليت عن أناقة شكلية. أنا من الفقراء الذين فتحوا أرواحهم، وأظنني تعلّمت.
أنا مع الفقراء بالمعنى الواسع، مع الحرية دون أي لفظ يضاف لوأدها، مع الإنسان. لو كانت عندي تجربة مع ثوار “الكونترا” سأحكيها، لا أحد يعتذر عن مبادئه. أنا مثل الكريستال مع نفسي ومع أصدقائي، لكن هناك من يرى الكريستال عتمة.
“قعدة الجمعة” هل هي صالون أدبي في الشارع؟
نعم، هي المعنى نفسه. في البداية كنت ألتقى الشاعرالكبير عبد المنعم رمضان وحدي، وأدعو الأصدقاء كيفما أتفق. وشيئاً فشيئاً كبرت واتسعت واتسع معناها؛ أصبحنا ننتظر سعيد الكفراوي كي يقص علينا من قديمنا. لا فكرة مسبقة معدة للنقاش، ربما يفرض حدث نفسه توقيتاً، لكننا نعرّج في كل مرة على جديد, نحتفي بكتاب جديد، نعرف مواعيد الفن التشكيلي والمسرحيات، ونوغل في الجديد والمختلف.
لا نقبل الدعاية ورفضنا رعاة؛ نحن فعلناها بحرية ونريدها أن تحافظ على تلك الروح. هي كذلك فعل ديمقراطي في بلاد تكره كلمة الديمقراطية. تُكتب عنا التقارير ويُنقل ما يحدث في القعدة بالحرف ويزيد. التليفزيونات تأتي للتصوير معنا، ولا يدفعون حتى ثمن “المشاريب”؛ بل نحن من نتولى الدفع عنهم. لا نفكر بطريقة عملية. اعذرنا على طوباويتنا، كل ما نخشاه أن يحدث انقلاب ويتم توجيه القعدة في اتجاه آخر؛ خاصة أن بعض القصائد التي تلقى في القعدة على هامشها تشي بشكل من الأغاني التي تذاع في المناسبات الوطنية. نستقبل فنانين عرب من كل الأصقاع، نفرح بوجودهم ونعمل على أن نستفيد ونستمتع في حضورهم. كما أنني لست قيماً عليها؛ أنا منشغل برئاستي للمنظمة العربية للمقاهي، تلك المنظمة التي اخترعتها حين لم أجد وظيفة بعد تركي للجامعة العربية. أنا الآن بلا وظيفة، لكنني لن أسعى لتحويل القعدة لوظيفة، خاصة أنها أصبحت مفتوحة وملكاً للجميع. ربما يفكرون ذات يوم في عمل تمثال لي في الأول من رمضان، لكنني أرى على البعد تاجاً من الشوك لا أعرف على أي رأس سيوضع.
رواياتك الأربع ومجموعتاك القصصيتان صدرت في عدّة طبعات، ماذا يعني لك ذلك؟ ولماذا لم تدقّ الترجمة أبوابها؟
نعم تطبع أعمالي بكثرة، وأحيانا يطبع الكتاب في أكثر من بلد عربي في نفس التوقيت؛ “باب الليل” طبعت في أكثر من بلد. أنا بمزاج صعب مع الناشرين، أكاد أكرههم، أطبع كل كتاب في بلد. الجملة المتكررة على مسامعي: “بحثت عن كتبك فلم أجدها”. تتناثر كتبي في كل مكان لكن لا يمكنك القبض عليها مجتمعة، حتى الطبعات المتكررة تنفد، لا أعرف إن كنت مقروءاً إلى هذا الحد أم أن الناشرين شبعوا منها. هناك من طبع لي ألفي نسخة، وباعها كلها وافترقنا، ويطبع من خلفي كل عام. لا أوقع عقوداً، وعلى أية حال لا أسلم نفسي لناشر؛ هي طبعة واحدة وأبحث عن غيره أو يبحث عني غيره. أكره السلطة، أية سلطة كانت، وهذا أحد الأسباب التي تدفع زوجتي للاحتفاظ برقم المأذون في هاتفها؛ حتى تتخلّص مني متى تمردت بشكل كبير!. وأنا ضعيف جداً أمام أصدقائي وأمام المحبة. ناشرة قالت إنها لم تشعربالندم في حياتها على عدم طباعة كتاب إلا “باب الليل”، رغم أنني عرضتها عليها لكننا لم نتفق. أنا أضع الكاتب في منزلة عالية، ويعجبني سعيد عقل حين يرفض أن يصعد مسرحاً إلا بمقابل، لا أفعل مثله، لكن العيش على الكفاف من الكتابة يبدو صعباً جداً.
أما عن الترجمة فلا أعلم، لست صديقاً لمن يعملون في المناخ. “باب الليل” مرشحة للترجمة غير أن الدار ترجمت لمصريين كثر وتريد التنويع فترجئ كتابي. لا أريد أن أتحدث في الأمر لكن “يدي على كتفك” وسأوافق هذه المرة على عقد.
هناك مجموعة كبيرة من الروائيين الشباب في مصر شكلوا حالة مثيرة ولافتة للنظر منذ عشر سنوات أو أكثر. هل تشعر بأنّك تنتمي إليهم؟ أين أصبحت تلك الموجة الآن؟.
نعم هناك حالات مثيرة وكتابة متجددة، وهناك فوران غثّ أيضاً. هناك، كما في كل العالم العربي، شللية وعرّابين للخراب، خاصة بعد أن أصبحت الجوائز حكم قيمة، وبعد أن أصبح الناشرون شركاء في تعميم الخراب لأسباب شخصية نفعيّة.
هناك كتابة جديدة وأسماء تشكلت تبحث عن فردانيتها، أشعر بمنتهى السعادة بينهم. أظن أنه من الطبيعي أن تؤثر في جيلك أما أن تكون حاضراً لدى أجيال تليك فهذا شيء رائع.
وهناك أيضاً جيل “شم النسيم” الذي يريد حصر الكتاب في أعضائه ودفعه إعلامياً وعبر الجوائز، لكن الكتابة الجميلة والحقيقية ستترك أثرها وإن عضّت على النواجذ هذه الأيام لما سبق وأسلفته.
متى ستتوقّف عن الكتابة؟
عندما أصير وزيراً للثقافة. وبما أنني لن أصبح وزيرا فلن أتوقف. أتوقف فقط عندما أشعر أنني لم أعد قادراً على اللعب أو المغامرة بجديد. أتوقف عندما تخرج “الماكينة” نفس القماش، عندما ألحن لحناً واحداً ككاظم الساهر في معظم أغنياته.
أزعم لنفسي أحياناً أنني أقدم جديداً مع كل نص حتى الآن. حاولت في حذاء فيلليني أن أتجاوز باب الليل؛ بمعنى أن أبتعد في الرؤية، في اللغة، في الشكل، ولا أعرف إن كنت نجحت في هذا أم لا.. كتبت قصصاً قصيرة بشكل مختلف عما كان سائداً.
لا أريد أن أتحوّل إلى شيخ في الكتابة؛ أريد أن أحتفظ لوقت طويل بتلك الروح المشاغبة المرحة التي تدفعني للمغامرة.
أنا أقرب للمغنين في شكلي ربما، لكن في روحي كثيراً، وأحلم باليوم الذي أغني فيه في مهرجان فاس للموسيقى الروحية، فعلتها “عناية جابر” وغنت على مسرح الأوبرا، وبالطبع إذا غنيتُ ستفسد فرصتي في الوصول للوزارة وهذا أمر طيب. على أية حال صادفني شخص لبناني في القطار منذ أيام وسألني: ماذا تعمل .قلت له كاتب، قال: طول الرحلة كنت أظنك مغنياً!!.

عن العدد (0) من مجلة دشت الثقافية
التي تصدر عن اتحاد مثقفي روج افايي كُردستان ( HRRK)