سيرة مدينة..دهوك.. كأنها مسقط رأسي

حسين شاكر

نزحتُ إلى دهوك أم لجأتُ إليها لا فرق، فلم أكن سائحاً أرتاد فنادقها ومطاعمها وأستمتع بطبيعتها الخلابة ثم غادر حاملاً معه بعضاً من الذكريات الجميلة يتباهى بها عند رفقته.

بحسب المعايير التي تتحدث بها المجتمعات الإنسانية في هذا العصر, لجأتُ إلى دهوك بعد الحرب في سوريا.

حملنا أنا وأخي بضعة كتب وغادرنا مدينتنا في جنح الظلام، ثم دخلنا إلى المنطقة الحدودية بين ديريك و قضاء زاخو آنذاك.

منعتنا القوات العراقية من الدخول, قالوا لنا بكل وضوح:

“هذه المنطقة هي العراق وليست بلادكم وإن أردتم الدخول إلى إقليم كوردستان فعليكم العودة إلى أقصى نقطة قريبة من الحدود التركية لتدخلوا عبر نهر دجلة”.

أدركت آنذاك ما معنى أن تكون كردياً. كانت وجهتنا دهوك لنعمل فيها بانتظار أن تنتهي الأزمة في سوريا, وكان يخيل إلينا أن العودة قريبة.

دهوك مدينة حصينة ليست باللازورد الذي طرزت به مدينة أور السومرية بل بثلاثة جبال: الجبل الأبيض في الشمال وجبل زاو في الجنوب و سفين في الشرق.

لا تظهر جبال سفين للعيان ولذلك يخيل للداخل إلى دهوك أنها محاطة فقط بجبلي الأبيض وزاو فقط، ولعل هذا ما أوحى للبعض أن معنى “دهوك” هو (دو = اثنين) و(هوك = جبل) لكن القاموس لا يدعم هذا الاجتهاد الايتيمولوجي لأن (هوك) لا تعني الجبل.

يروي سكان المدينة فرضيات أخرى للتسمية منها أن المدينة كانت على ممر دولي تجاري تجبي من العابرين صاعين من الحنطة او الشعير ويرى باحثون كرد أن (ده) تعني قرية و(وك) للتصغير ما يعني (قرية صغيرة) أي على وزن (أوروك) المدينة السومرية المعروفة .

الناظر في السمات العامة للدهوكيين سيرى شعباً جميل الملامح ويحمل بعض المؤثرات الهيلينية وآخرين ذوي سمات مقدونية أو آشورية أو حتى أرمنية, سترى بشرة بيضاء وأخرى سمراء وثالثة شقراء.

وفي مدينة يتعايش فيها المتدينون من الديانات السماوية الثلاث, تشرق فيها كل صباح روح زردشتية فتنير الجبال الثلاثة والوادي الذي يضم المدينة التي تكبر يوما بعد آخر.

كان الراحل “فلك الدين كاكائي” يرى تلك الروح في أزياء المدينة فالشاب الأعزب فيها يعقد حزام خصره بثلاث عقد تشير إلى أركان الزردشتية الثلاثة “الفكر الصالح والكلام الصالح والعمل الصالح”.

تحمل دهوك كذلك آثاراً من المسيحية الأولى بارزة في مسميات القرى حول دهوك وما أدهشني أكثر وجود نقوش دالة على “الصليب المعقوف” في بعض النقوش الرومانية .

التعايش بين جميع الأديان واحدة من خصائص دهوك بل قد تجد هناك بعضاً ممن لا يؤمنون بأي دين ودون أن يحدث بينهم وبين جيرانهم ما يتجاوز بعض النقاشات الحادة وهذه أساساً من طباع الكرد بشكل عام.

المرأة في دهوك

الدهوكية معتدة بنفسها والمسنات منهن من أكثر النساء رحمة فلن تجد حناناً كحنان الجدات في دهوك.

هؤلاء الجدات رغم تقدمهن في السن ما زلن يصمن الاثنين والخميس  ويتصدقن بأفضل ما في المطبخ.

كانت المسنات من جيراني – رغم جهلهن بديانتي – يرسلن إلي أشهى الأطعمة التي صنعنها وكانت الكثيرات منهن يجلبن لي الطعام بأنفسهن لأن في ذلك أجراً أكبر ليس على خلفية إسلامية – وفق تحليلي – بل هو شيء مرتبط بالموروث الزرادشتي القائل “لا يهم لمن تعطي الصدقة, المهم أن تكون فاعلاً للخير”.

رغم أنهم في غاية اللطف فإن أهالي دهوك لا يندمجون بسرعة مع الغرباء لأنهم في غالبيتهم محافظون وقد اعتبرتُ نفسي محظوظاً حين أتيح لي حضور عرس في دهوك كان قد دعاني إليه العريس شخصياً. كم أعجبتني الأزياء الفولكلورية التي كان يرتديها الشبان والشابات والرقصات التي كان يجيد الجميع أداءها بما فيهم المسنون والمسنات والصبية والفتيات. وجدتها مشابهة للرقصات في بلدي وكان من الواضح من هذا التشابه أن أصولها تعود إلى آلاف السنين .

سوق المدينة

سوق دهوك كأي سوق شرقي فيه من أنواع الموالح والألبسة ذات الطابع الشرقي والأجبان والتوابل ومستلزمات صناعة الحلوى المحلية ومحلات صياغة الذهب, وما أحسن مشهد فتاة تصحبها بعض النسوة وهن يتجولن برفقتها ينتقين لها الأقمشة والذهب والساعات وسواها من مستلزمات الخطوبة أو الزواج .

عشتُ في دهوك أكثر من أربع سنوات كانت كافية لأشعر بالانتماء الحقيقي إليها. لقد سيطرت هذه المدينة على روحي حتى صرت أشتاق إليها وأنا أعيش في مكان آخر. كأنها مسقط رأسي الذي ولدتُ فيه أو كأنها فرد من عائلتي.

لن أنسى دهوك في حياتي, المدينة الحنون كأمّ، ففيها عرفت العشق وفتح الحب أمامي آفاقا واسعة, وفي فضائيتها قدمتُ (ديالوك) برنامجي الحواري الذي أعتز به. قال لي حينها مدير القناة إنك لن تستطيع إيجاد ضيوف ومفكرين كبار في دهوك لإثراء برنامجك الذي يغلب عليه نقاش القضايا الفكرية ولكني مع ذلك تمكنت من ملء حلقات ذلك البرنامج بدءاً بالميثولوجيا وانتهاء بالعولمة ولا أذكر أنني استضفتُ أحداً من خارج دهوك وأقضيتها إلا فيما ندر.

دهوك منتجة للفلاسفة كالمدن اليونانية رغم أنها غير محاطة بالبحار لكنها بوقوعها على السهول المحاذية لنهري دجلة والفرات كانت حاضنة لكل ما أنتجته البشرية من حضارة وميثيولوجيا وعليّ الاعتراف أن فيها نخباً فكرية لا تقل خصوبة وإبداعاً عن نظيراتها في عموم حواضر الشرق الاوسط.

يتجه الشباب المهتمون بالأدب في دهوك على الأغلب إلى الشعر الحداثي الكردي الذي يتسم بلغة كردية نقية ومنهم تعلمت الحديث بلغتي الكردية الكورمانجية بنسبة أفضل من ذي قبل بكثير.

لا يمكن الحديث عن دهوك بكلمات قليلة كالتي كتبتها ولذلك سأنهي حديثي هكذا:

دهوك… لم أزل أداوي قلبي المشتاق بتخيل قطعة الجنة الوادعة بين ثلاثة جبال ولم تزل روحي منقوشة بابتسامة جدة حنون.

*عن العدد (0)من مجلة “دشت” الثقافية وهي فصلية تصدر عن “اتحاد مثقفي روج آفايي كردستان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق