ألماز علو وظلالها المرئي… تواردات لواقع مغلوب على أمره

روان جومي

“أبي لا يعرف شيئاً عن العمل من منظور المنظومات الاشتراكية واليسارية والشيوعية والرأسمالية والبرجوازية، وليس لديه أي تصور عما يعنيه الاقتصاد السياسي، أو كيف تدار السياسات الاقتصادية، ولكنه يدرك بأن الوقوف تحت أشعة الشمس وسط صحراء بعيدة، منذ الرابعة صباحاً وحتى الرابعة مساء، لم يمنحه قيمة، فقط دفتر حسابات تعبث أصابعه المترهلة تعباً، وعمراً من شجن الحرمان بأوراقه، وهو يحاول الموازنة بين متطلبات المدارس ومتطلبات المعيشة اليومية.”

هكذا تنقل ألماز علو مشقة حياة طويلة في كتابها الأول “ظلال المرئي” ضمن مجموعة تراتبية محببة عن أفكارها العميقة حول محطات متقطعة من حياتها ومشاهداتها.

لحظة النشأة

ألماز علو، ابنة عفرين قرية قاطمة، ولدت ونشأت في مدينة الطبقة ثم انتقلت إلى مدينة حلب، خريجة المعهد المتوسط للأعمال الإدارية، المجموعة القصصية ظلال المرئي هي أول كتاب مطبوع لها، وتحضر لعمل جديد.

لم يكن بنية علو نشر قصصها في كتاب إلا بعد تشجيع من بعض أصدقائها، بل كان مهماً لها قولبة الحالات والمواقف التي عايشتها وفقاً لمنظورها الخاص، تقول “في الحقيقة لم أكتب ظلال المرئي بغاية النشر، ولم يكن لدي أي خطة لتجميع القصص في كتاب، كانت جملة التواردات نشأة لحظتها، حيث أصادف أشخاصاً أو أحداثاً أو مواقف تترك لدي احتقاناً فكرياً وشعورياً أشعر بحاجة لتفريغه وتشكيله حسب آلياتي الفنية الخاصة، ومنظوري الشخصي للحالة، الذي من شأنه أن يخدم هدفي في لفت الانتباه إلى ضرورة تخطي الاعتياد على التقاط ما نراه فقط، والأخذ به كشارح للحقيقة وقياساً لها.”

بل كان تحريضاً على تتبع خيوط ظلال المشهد العام، الذي يؤدي “لأولئك البسطاء، المهملين الذين يجلسون في زواياهم المعتمة متكورين ببؤس المبعدين عن المشهد على صراعاتهم الداخلية ومعاناتهم النفسية.”

لم تدرك علو قدرتها على اختراق تلك الزوايا إلا بعد أن أعطاها والدها دفتر طالباً إياها بتسجيل كل ما يخطر ببالها بعد أن استدعته معلمتها في وقت سابق تخبره بطريقة تفردها في الكتابة.

تلك الطالبة التي كلما ضاق بها الأمر فيما بعد أو جالت فكرة في مخيلتها أو شعرت بحالة من اللا استقرار ذهني التجأت إلى دفترها منفردة بغرفتها لا تخرج منها إلا بعد ما تحبّرها على الورق، وسط دعم من والدها بدافع أبوي آمناً بمستقبل أدبي مبشر لها، إلى جانب دعم بقية أفراد عائلتها.

شاركت الكاتبة بعدة مقالات في الجرائد الصادرة عن الأحزاب الكردية، وعملت لفترة مع الهيئة الإعلامية لمجلة بروان الشبابية، ثم اتجهت نحو القصص القصيرة “كتسجيل انطباعي عن وقائع حياتية واجتماعية ونفسية ضمن سياق من السرد الأدبي، والتي انتهت لتصبح كتاب “ظلال المرئي.”

حتمية القدر

مع اندلاع الحرب السورية انتقلت علو للإقامة في تركيا عام 2012 وما زالت، بقرار جاء نتيجة قراءتها لما ستؤول أحوال منطقتها إليها.

إذ ترى أن قدر الإنسان متشابه في كل الحروب التي نشبت وتنشب وهو قدر مرهون بالمصالح والتوافقات الدولية، ووحده الإنسان هام ككيان مسلوب الكرامة.

تقول “الحرب هي ازدراء متفق عليه للوجع واستلاب الكرامة البشرية، تضع الإنسان وجهاً لوجه مع مفاضلات أخلاقية وعاطفية ووجودية، تسحبه خارج نطاق ذاته الإنساني، لتضحي حياته أو موته مسألة مسافة، وقضية صدفة، يختل قدره بسوء تقدير للمسافة بين رأسه ورصاصة قناص، ويكتسب موته أو حياته بصدفة تواجده أو عدمه في المكان الذي تختاره قذيفة لنزولها، ذاك الإنسان الذي يتعايش مع مفرزات الحرب ومنعكساتها كواحد من مستلزمات الخلاص.”

ألماز علو ذات غير متكلفة تحب أن تكون حاضرة كاسم وفكرة أكثر من البهرجة والاحتفالية، وجه هادئ يبحث عن السكون في حب الزراعة وروح شغوفة باستكشاف الجديد في السفر.

إلا أن الحرب السورية سلبت منها الدهشة، وفسخت عقود ارتباطها مع الأرض وكل القيم الجمالية التي كانت تستوقفها في طير أو ورقة حتى شغفها باستنباطها للجمال من الجزئيات التي تعكس صورة قاسية ومشوهة عن الحياة، كما أقصتها عن علاقتها الحميمية مع التفاصيل وهوسها بتتبعها، وفق ما أوضحته.

واقع الكتابة السورية

تعتقد علو أن الكتابة السورية بشقيها العربي والكردي دخل مرحلة جديدة بعد الحرب وأفرزت ما يمكن تسميته بأدب المرحلة، والذي رأى فيه المجتمع السوري وسيلة من وسائل الدفاع.

لكن تتساءل “إلى أي حد تمكن أدب الحرب من الدفع بالوعي إلى الأمام، وإلى أي درجة تمكن أدب المرحلة من مشابكة التخيل مع الواقع في حبكة سردية تشرح الحدث بعيداً عن الإغراق العاطفي والحماسية المفتعلة؟.”

فنشأت فيه انقسامات وتحيزات، خاضعة لشروط ومتطلبات، محظورات ومسموحات الجهة التي تتبنى العمل وتقوم على تغذيته طباعة وترويجاً، في حالة من اللهاث التنافسي لإثبات كل جهة فاعليتها ومصداقيتها في نقل الواقع وتوثيقه ولو كان على حساب القيمة الفنية والفكرية والأدبية للعمل، أو على حساب الرؤية المجردة للكاتب.

هذا النوع من الدعم وتصيد كل من يقدم نفسه كاتباً لمجرد تماهيه مع إيديولوجية وذهنية الجهة الداعمة، دون استيفاءه لشروط الإبداع ومتطلباته ساهمت بشكل كبير في الهبوط بالذائقة الثقافية وعملت على قولبة أنماط الفكر التحليلي للمتلقي، حتى أصبح القارئ نفسه يتحيز لما يشبه ما يريد سماعه هو، ويرفض أو يحاكم ويتهم ما يختلف مع الأفكار الجاهزة والدعائية الممنهجة التي اعتاد على التقامها، بحسب وصفها.دون أن تنكر وجود الطفرات الإبداعية التي تستحق التقدير.

وحول السؤال إذا ما كانت وسائل التواصل الاجتماعي استنزفت الطاقات الإبداعية، أجابت بعدم اعترافها بهذه المقولة لأنها بالمحصلة هي “خيار يتخذه أو لا يتخذه المستخدم، ولكنها تشارك في تعويم التفاهة، بطردية تتناسب مع حجم التفاعل مع المنشور تعليقاً وإعجاباً، هو عبور سريع واستعراض للعضلات اللغوية.”

الأماكن تتغير

تفتقد علو الشعور الذي كانت الأماكن تخلقه لديها، فكل مكان بالنسبة لها هو محطة على الطريق، الطبقة، عفرين، حلب، لكنها لا تتمنى العودة لتبقى محتفظة ببلادها في وجدانها كما تركته في 2012، لأن الأماكن تتغير، وهي شخصية شغوفة بالتعلق بالجزئيات وتحب أن تظل منغلقة على كينونتها وتميّزها.

وعن علاقتها باللغة الكردية، تتوق لإتقانها، وتتفاءل بوجود حراك أدبي كردي بعد عقود من التهميش والإهمال والمنع، لأنه بهذه الحالة “يصبح الأدب كنوع من الحفاظ على الثقافة اللغوية وإعادة تركيب وجهها الحضاري، وهو ما يفترض أن يقوم به من يجيدون اللغة بشكل متكامل قواعدياً وتاريخياً وتعبيرياً.”

بالنهاية فالقضايا تحتمل أكثر من وجه للنضال “منه اللغوي ومنه الفكري ومنه الأدبي ومنه المسلح وعلى كل شخص أن يختار الجانب الذي يستطيع أن يقدم قضيته من خلاله بأعلى مستوياته من الطاقة وأجداها.”       

حمام بجريرة الحكام

تتوالى القصص في مجموعتها “ظلال المرئي”، الصادرة عن دار لوتس 2020، كما لو أن صوراً تلغرافية مأخوذة بعناية كي تنقل تفاصيل الوجع بدقتها وبكامل أناقتها، تارة في بلاد الغربة وتارة من جوف مولدها، المجموعة المؤلفة من 23 قصة، بلغة انسيابية جميلة، تأخذك في بحر من الأحاسيس الغريبة ومفردات أخاذة.

23 ظل عن خوالج الروح وموازنات ذهنية حول معايير متأصلة في مجتمعها، رافضة بعضها بقناعات نابغة عن فهم خاص لهذه المعايير، هي ظلال مجتمع خارج عن ضوابط القيم الإنسانية ومغلوب على أمره ومشرئب بسطوة عهود من التسلط هو ذاته وإنْ تغيّر لاعبيِه.

فمن “أكره الذهب” إلى “تبنيت قطة” و “لم اتعامل يوماً مع كوني أنثى بشكل جيد” والبقية التي تسحرك وتشدك لمعرفة ما ترمو إليه الكاتبة، وتكتشف أن بداخلها حزن عميق متسائلة “هل يؤخذ الحمام بجريرة الحكام” عندما تحوّل الحمام من مشهد غني بالسمر بحضوره اللطيف على شرفتها ويرمي بروحها شعوراً أنيقاً بالهدوء، إلى صورة خلفية لوجه ديكتاتور حاملة في منقارها غصن زيتون كشعار لاغتصاب مدينتها عفرين.

رأي واحد على “ألماز علو وظلالها المرئي… تواردات لواقع مغلوب على أمره”

  1. ألماز ذكية مجتهدة منذ نعومة أظفارها، وهي كاتبة واعدة، أنا شخصيا أنتظر منها المزيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق