“ذئب الله” ومأزق التّأويل

رفيقة المرواني _ تونس
يقول جاك أورويل في روايته المعنونة (1984): “كيف يفرض إنسان سلطته على إنسان آخر يا ونستون؟ فكر ونستون ثم قال: بأن يجعله يُعاني”، وهذا تحديداً ما فعله عواد الجشع بطل رواية ذئب الله للروائي الأردني- الفلسطيني جهاد أبو حشيش.
جهاد أبو حشيش شاعر وروائي أردني- فلسطيني، صدرت له مؤخرا رواية “ذئب الله” عن دار فضاءات للنشر – الأردن بالاشتراك مع دار “ابن رشد” المصرية, عدد صفحاتها 167صفحة.
حاول أبو حشيش عبر روايته تشخيص الداء الذي ينخر جسد الأمة من إرهاب وعنف تغلغل في النفوس ونال من القيم الأساسيّة للمجتمع ككل… وعن روايته تلك كان لنا معه هذا الحوار.
عن سؤالنا: من رواية “بيمان درب الليمون” الى رواية “ذئب الله” لا حظنا أن هنالك شيطنة للذكورية الشرقية, فبقدر ما كان الرجل في رواية بيمان درب الليمون كائناً وديعاً منصاعاً لمشاعره تجاه المرأة سواء أكانت أمّاً أو حبيبة أو أختاً يشاطرها شواغله وآلامه وأحلامه إلا أننا نجده قد انقلب في “ذئب الله” إلى الضد، أصبح الحيوان الذي يتربص بالمرأة إما للتشفي أو لإشباع عقده وغرائزه. هل من سبب يفسر هذه النقلة الفريدة من نوعها في مسار الرواية لديك؟
قال أبو حشيش: المرأة في “بيمان، درب الليمون” متمثلة بزينب بداية ثم ببيمان، هذبت وعي الرجل/ جمال بذاته وذكورته، فحيث تكون العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة واعية ومدركة إنسانياً، لا تكون الأنوثة أو الذكورة فعل قوة بل فعل حياة للارتقاء وخلق التكامل غالباً, وفعل القوة الذي يتخذه جمال حينما يصمد تحت سياط الجلاد في الزنزانة لم ينسبه للذكورة لأنه لم يفكر بها كعامل تفوق على الآخر، بل على العكس فكر بزينب وبيمان كأيقونتين ونسب إليهما فعل الصمود والارتقاء الذي استطاع تجسيده. أما في ذئب الله فالذكورة مدخل للتطرف، البعد الذكوري في الرواية قائم على معادلة الطرف الواحد، وهي نفي لكل ما عدا الأنا وقانون خاص للتسيد واضطهاد المرأة، والذكورة الشرقية بمفهومها المجتمعي وبما أنها تلبس ثوب القبيلة، فهي تستند على القوة والمال من أجل الحفاظ على السلطة وفي طريقها إلى ذلك لا تعترف بحدود ولا بقوانين، حتى المرأة هنا تخون نفسها وتاريخها لتؤكد سلطة الذكر، وهذا يتجلى لدى “عصرية” التي ربت عواد, ويتجلى لدى “عائشة” التي رغم رفضها لبعض تصرفات عواد تجد له تشريعاً ما في النص، أو بمعنى أدق في تأويل النص الذي حرص عبر قرون طويلة على تأكيد دور السلطة القامعة والعنيفة المتمثلة في الذكورة.
لقد حاولتُ في ذئب الله أن أفكك الحيثيات المجتمعية وبخاصة المتعلقة بالذكورة كمدخل للعنف واستعباد الآخر الذي هو هنا الأنثى بكل تجلياتها، فالذكورة هنا لا تعترف إلا بذاتها في محاولة منها لترجمة مجموعة القيم المستقاة من الواقع المجتمعي.”
ثم عن السؤال المتعلق بكونه روائي ملاحق بهاجس الهوية والانتماء ما يدفعه باستمرار للكتابة عن المقاومة، يجيب جهاد أبو حشيش:
“لا أعتقد أن المقاومة كفعل ثوري موجودة وإن وجدت إرهاصاتها في البدايات إلا أن واقع حركات التحرر الآن واقع شكلاني كما أراه وغير ناضج لا في تحالفاته ولا في فاعلياته غالباً.
المثقف, والذي نفترض أنه المادة الرئيسة لحركات التحرر, بات يعيش تناقضاً حقيقيا، فالكثير من المفاهيم اختلفت لديه، وتغيرت رؤيته التي كانت تستند على ضرورة الخلاص الجمعي إلى ضرورة الخلاص الفردي، مما أسقط فعل المقاومة كفعل حياة. وإذا كان المقصود انشغالي فيما أكتب بالمقاومة الفلسطينية في جانب هام من أعمالي خاصة الرواية فهذا طبيعي، لأنني أفتش عن الإنسان وأخلق مختبري الواقعي والحياتي لأكتب الحياة بكل تجلياتها بكل ما يقال وما لا يقال، حتى أستطيع الوصول إلى فهومات قادرة على نقلي لفهم كوني لما أحيا.”
أما عن السؤال المتعلق مباشرة بالعنوان “ذئب الله” ومأزق التأويل الذي حُصر بين الفهم المغلوط للدين والهوس الجنسي يقول جهاد أبو حشيش:
“ننشدّ دائما إلى محاكمة الأشياء. متى ستكون أجنحتنا قادرة على أن تحلق بعيداً عن الحدود والجدران. ما هو مقدس وما هو غير مقدس منها. يرى البعض في مفردة “ذئب” معادلاً للشر نتيجة دلالاتها في النص التي تنسحب على ذئبية عواد وشرهه الجنسي وميوله العنفية المباشر منها والمستتر، ورأيهم أن دلالات المفردة لا تسمح بإلصاقها باسم الجلالة. ولي بالتأكيد رأي مغاير في هذا ولا أعتقد أن لدي مطباً عقائدياً هنا، فأنا كاتب ولست فقيهاً. أعمل على تفكيك القائم وأفتش في مكوناته لفهم سبب الخراب الذي نركض نحوه، ثم نحيله إلى أسباب خارجة عن حقيقته. أما الهوس الجنسي فهو جزء رئيس من الذاكرة المعاشة في واقعنا إن لم تكن هي الذاكرة، لأن النص المقدس سواء ترغيباً أو ترهيباً من خلال الفقهاء قد روّج للأمر تارةً بالعقوبة والمنع والترهيب والإغلاق، وتارةً بتصويره كجوائز لا حد لها لدرجةٍ باتت معها المرأة في مجتمعاتنا تتعامل مع نفسها كجائزة وليس ككينونة قائمة بذاتها واستقلالها وكل ذلك بتأثير النص والبنية الاجتماعية التي أفرزت علائق غير متوازنة وغير إنسانية.”
وعن السؤال: في رواية “ذئب الله” تسلط الضوء على الإرهاب النفسي والجسدي الذي يمر به الإنسان العادي الذي لا يملك أي مرجعية فكرية أو أيديولوجية يمكن أن ترشده إلى السبيل الصحيح. ترى كيف استطعت الولوج إلى عمق الأزمة التي تنخر النسيج المجتمعي العربي من خلال شخصيات الرواية؟
يجيب جهاد أبو حشيش:
“إن الولوج إلى عمق أزمتنا لا يحتاج إلا إلى قدرة على فرد الحقيقة، لنجرب أن نفرد معطيات الواقع على الطاولة، لنضع اعتباراتنا الخارجة عن المشكل جانباً، لنبتعد عن سلطة المقدس بما فيها العشيرة والديكتاتور، لنتعامل مع ما هو أمامنا كإنسان، بعيداً عن اليسار واليمين والوسط والخضوع إلى صناديقهم المعدة سلفاً، إي لنحاول الحفر عميقاً من أجل التغيير لا من أجل المعاينة والفضح فقط، ولا من أجل تأكيد صحة مقدسنا إن كان يساراً أم يمينا، عندها سنجد أنفسنا قادرين على تفكيك الأزمة المجتمعية بكافة مستوياتها. الشرط الرئيس لهذا أن ننطلق من لحظة نمتلكها بدون ما هو مسبق من الآراء والمعتقدات والمقدس ولا نجنح للحكم على شيء بل ندع للشخصيات سيرها الطبيعي. وما فعله الراوي في ذئب الله هو استحضار المجتمع إلى مختبر الكتابة بعيداً عن الفعل القسري أو المؤدلج، وترك الشخصيات ترسم ما تراه كل من زاويته. عندما نترك الجميع يتحدث من أجل الحقيقة، سنكتشف أن الحقيقة قتيلة الجميع، القاتل والقتيل، الصياد والضحية.”
وعن تعدد الرواة في ذئب الله التي تطلبت قدرة فائقة على حبكة السرد والحفاظ على التوازن بين الأصوات الروائية، طرحنا على جهاد أبو حشيش السؤال التالي: هل تحدثنا عن المخاض الذي عايشته مع شخصيات ذئب الله؟
فأجاب ضيفنا:
” كما ذكرت سابقا، أنا لا أرى أن الراوي العليم يمتلك الحقيقة وبالتالي أؤمن أن من الضروري أن تقال الحقيقة من عدة زوايا ومن وجهات نظر مختلفة وأن الصورة لا تستكمل إلا أن أشرك القاتل والمقتول، الفاعل والمفعول والمتفرج، والمنفعل والسالب والموجب في بناء الصورة أو جزئياتها. ما عانيته مع الشخصيات ليس بسيطاً، يكفي أن أقول إنني نشرت الرواية بعد الكتابة الحادية والعشرين، فأنا لست ممن يضعون معماراً جاهزاً ليبنوا على أساسه، ففي داخل النص يشعر القارئ أنه داخل الحياة، فالمحكيات ليست جميعها مكتملة، سيصادف شخصيات في محطة ما، تنسحب في محطات أخرى، وشخصيات تعتلي المشهد عند نقطة ما أي كأنه داخل المشهد الحقيقي للحياة بكل سيولاته. “
وعن الروائي الرائي والمتفاعل أما تعاطفاً أو نفوراً مع شخصيات روايته إذ وراء كل نص مكتوب ثمة مجموعة من النصوص التي غادرت إلى صمتها، وهناك محطات انتصرت فيها الشخصيات على الراوي، ومحطات حاول الراوي أن ينتصر فيها، طرحنا السؤال حول ما إذا كان جهاد أبو حشيش قد استطاع فعل ذلك؟
أجاب:
“لو تركتُ الراوي يغرق في الحكي كما هي حال الأمة لأنتج نصاً ملحمياً لأن الرواية تحتمل ذلك، ولكن رغم صعوبة الأمر، أعتقد أنني استطعت تكثيف النص والخروج برواية رشيقة ذات نفس ملحمي كما رغبت لها، والأهم أنني تركت مساحات للقارئ ليكون شريكي بها أو يكتب روايته الخاصة من خلال المحكيات غير المكتملة، فـ”سارا العمّار” مثلا، زوجة الشهيد خرجت من النص في لحظة ما، لكنها بالتأكيد ذهبت لتكمل روايتها في الحياة، تابعتها وما زلت أتابعها، و”منال” أيضاً هل اكتملت روايتها؟ و”عائشة” هل اكتفت بتلك المشهدية الحزينة في الرواية ووو … أنا أتعامل مع الشخصيات وكأنها حقيقية حين أكتب وأحاول أن أكون أميناً على ما تراه هي. وأعلم أني سأتعب معها كثيراً ودائماً.”

عن مجلة دشت العدد (0)
مجلة دشت فصليّة ثقافيّة- تصدر عن “اتحاد مثقفي روجآفايي كردستان”